نسخة تجريبية

على القانون أن يعكس تحولات المجتمع لضمان تنمية حقيقية


نظمت مؤسسة منصات، يومه الجمعة 22 يوليوز بفندق نوفوتيل بالمحمدية، طاولة مستديرة حملت عنوان "القانون وجدلية الفرد والمجتمع".  وتندرج الفعالية ضمن أنشطة برنامج جيل الذي تشرف عليه المؤسسة، وفي إطار تعميق النقاش حول البحث الميداني الذي تشرف عليه منصات. وشهدت الطاولة حضور عدد من الحقوقيين، والسياسيين ورواد المجتمع المدني والطلبة الباحثين. كما شارك في تأطير النقاش كل من المحامي بهيئة الدار البيضاء و أستاذ القانون محمد حسني الإدريسي، وعضو اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان الدكتورة  تورية العومري، ومحمد عبد الوهاب رفيقي الباحث في الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى حضور الدكتور عبد الرحمان الزكريتي العضو الرئيسي المؤسس لمنصات وسير النقاش عزيز مشواط رئيس مؤسسة منصات.

عبد الرحمان الزكريتي : "المجتمع فضاء للتشارك وليس للتنافس"

في تناوله للنتائج الأولية للبحث الميداني الكيفي الذي يجريه باحثو منصات، أكد أستاذ علم الاجتماع بجامعة عبد الملك السعدي عبد الرحمان الزكريتي أن هذا البحث يأتي تعميقا للبحث الكمي الذي سبق للمؤسسة إجراءه السنة الماضية وكانت أهم نتائجه أن انغراس الحريات الفردية في المجتمع المغربي يواجه العديد من العوائق الثقافية، المجتمعية، القانونية بالرغم من وجود مؤشرات كثيرة تفيد اتجاه المجتمع نحو نوع من قبول أوجه متعددة من حريات الأفراد. وأوضح الزكريتي أنه من اللازم البحث عن المعنى الحقيقي للحرية الفردية و المترسخ في أذهان ووعي الناس باعتبارهم أصحاب مواقف، قادرين على الانخراط في صياغة اتجاهات معينة تخص هذه الحريات.

 وحول المعنى الذي يعطيه الناس للحريات الفردية، أشار الزكريتي إلى أن هذه التمثلات حمولتها ثقافية، دينية وسياسية كونها تمثل مدى تصور الناس لوجود الحريات الفردية، و مدى تبنيهم لها وذلك من خلال الاعتراف للفرد بممارساتِ واختياراتٍ يمكن أن تكون في مجاله الخاص، و يمكن أن تكون ضمن فضاء مشترك مع الآخرين، حيث أن الحرية لا تُعاش إلا مع الآخرين،  من هنا حدود ممارسة هذه الحرية التي تعتبر محاولة لنزع الاعتراف من الآخر بإمكانية هذه الممارسة، و بما أن الميدان خال من أي خطوط توضح حدود حرية الشخص و الغير فإن هذه الحدود تظل وهمية و نسبية، تتعلق أساسا بالثقافة المحمولة في أذهان الناس،والتي تشكل مرجعية سلوكية أي السماح بالفعل أو عدمه.

وكمثال على حدود الحرية وتأثرها بعدد من المتغيرات، أورد المتدخل الجدل الحاصل عند الحديث عن حرية المرأة مقابل الرجل في جميع مجالات الحياة كاللباس مثلا ، فالنساء عليهن رقابة أكبر من الرجال ومن هنا فالنوع الاجتماعي له دور هام في تفسير معنى الحرية. كما أن الحرية تختلف باختلاف المجال، فنسبية المجال حضريا كان أم قرويا  تعطينا أيضا نسبية ممارسة الحرية.  ثم يأتي المستوى الإجتماعي فالنفوذ والمال والسلطة تسمح لمالكيها بهوامش أكبر في الانفلات من الرقابة، حسب إجابات العديد من المبحوثين.

وبخصوص حرية التصرف في الجسد، كشف المتدخل أن أهم النتائج التي توصلنا إليها تربط ذلك بالمرجعية الدينية لتعتبر أن الجسد أمانة من الله و الإنسان مسؤول أمام جسده و ليس حرا في التعامل معه، و البعض الآخر يقول بأن الشخص حر في جسده و من هنا الإختلاف في المواقف بين من يؤمن بحرية الإنسان في جسده و من يعارض بتأكيده على أن الجسد "أمانة" لا أحد له الحق في التصرف فيه.

وكشف ذات المتدخل ، من جهة أخرى، أن حرية المعتقد لا تزال تعتبر  ملكا جماعيا وبذلك فأي تصرف يمس الدين، يعتبره المبحوثون أنه قد يمس المجتمع بأكمله، أما من حيث التعامل مع غير المسلم فإن المبحوثين يستحضرون كثيرا التسامح ولكن حسب السياقات حيث يختفي عند زواج مسلمة أو مسلم من غير المسلم فيصبح الأمر صعب التقبل بدعوى أن هذا الرفض من شأنه حماية التماسك الإجتماعي والأسري وضمان الاستقرار وعدم زعزعة الثقافة.

وبخصوص محور الحرية الفردية والقانون، كشفت النتائج وجود انقسام حاد بين فئتين: الأولى تؤكد على أنه من الواجب تقييد القوانين وتشديدها لمنع الفوضى وفئة تدافع عن حقها القانوني وتطالب بالإنصات للواقع من أجل تجاوز التنافر الاجتماعي المعاش، وذلك بالخضوع لمبادئ حقوق الإنسان.

رفيقي : لا حرية في الدين وبعض المواقف تلفيقية

      وفي تعليقه على النتائج الأولية لبحث منصات، نفى محمد عبد الوهاب رفيقي وجود علاقة بين الدين والحرية في شكلها الحديث والمعاصر، وأوضح أن سياق الحرية في التراث الديني الإسلامي تقوم على أساس ثنائية "الحر والعبد وليس الحرية بمعناها الحالي الذي يقوم على احترام حرية الفرد، وتفكيره وغيرها".

و أوضح المتدخل أن الإشكال الذي يعيشه المجتمع الآن هو مشكل التخبط بين الحداثة و بين القيم و الأفكار والتصورات المرتبطة بالدين، والذي استغلته بعض الحركات الإسلامية السياسية لتحاول الجمع بين الطرفين والتوفيق بينهما، واستخدمت المفهوم "الجديد" للحرية التي هي أساس للمجتمع الحديث و دمجته مع الفقه الإسلامي، و هذا ما سماه المتدخل بـ "بعض المواقف التلفيقية" لأنه من المستحيل الدمج بين الأمرين.

وأضاف، رفيقي: "إن الحرية في الدين بالمعنى الحديث "لا وجود لها" موضحا أن هذا الأمر نجده عند بعض الفقهاء ومن بينهم المؤرخ المغربي خالد الناصري في كتابه الاستقصا حيث نقرأ :" واعلم أنّ هذه الحرية، التي أحدثها الإفرنج في السنين الأخيرة، هي من وضع الزنادقة قطعاً؛ لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا، و اعلم أن الحرية الشرعية هي التي دعا الله لها في كتابه وبينها الرسول لأمته وحررها الفقهاء في باب الحجر من كتبهم." .

وهنا يظهر لنا جليا، يقول المتدخل، أن سياق الحرية في الدين هو سياق مختلف تناول مشكلة الحر في مقابل العبد، وبذلك كل استعمال لأقوال الصحابة في السياسة هو نوع من التلفيق فاعتمادهم مثلا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم احرارا"،  للربط بين الحرية في غلافها الديني و الحرية المعاصرة، ما هو إلا عمل مصلحي.

وقدم المتدخل مثالا أخر عن ما سماه التلفيق حيث اعتبر  أن ربط  فرض الحجاب على المرأة و الآية الكريمة :" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" سورة الأحزاب (59) ليس صحيحا. وأضاف أن سياق الآية جاء في إطار حماية المرأة الحرة من الخلط بينها و بين الأمة، فالمحجبة هنا تعرف بحريتها، و هنا أيضا يظهر لنا اللبس الحاصل عند دمج هذه الادلة الشرعية مع مفهوم الحرية المعاصر.

وهكذا،  فالحرية في الدين الإسلامي يمكن حصرها في التفرقة بين الحر والعبد و بين الحرة و الأَمَة، بل و حتى فيما يخص الطبقات الإجتماعية التي يحددها الجنس (امرأة/رجل) و الكينونة (حر/عبد)، ففي نطاق الحكم أو قيادة المرأة الحرة ، نجد أنها تنقص رتبة عن الرجل الحر، والرجل العبد اقل درجة من الرجل الحر. وأقلهم رتبة المرأة الأَمَة.

وخلص رفيقي إلى أن الاستدلال بالمرجعية الدينية أثناء الحديث عن الحرية الحديثة مناف للصواب، لأن الفقه الإسلامي لا يعترف بهذا النوع من الحريات، وأن مفهوم الحرية ظهر أول مرة مع ظهور الدولة الأولى في الإسلام "الدولة الأموية"، و التي أسست لعقيدة استنبطتها من ثقافات أخرى وجرت أسلمتها و التي هي عقيدة الجبر أي أن "الإنسان مجبر على أفعاله". و بالتالي فإشكال هذا المجتمع هو إشكال مختلف لمجتمع مختلف لا يجوز الخلط بينهما، يختم رفيقي.  

العومري : وضعية المرأة فيها نوع من التواطؤ وليس التفاوض

      وفي سياق متصل، عقبت تورية العومري على نتائج البحث الكيفي من خلال منظار النوع الاجتماعي حيث اعتبرت أن الحريات الفردية تصير أكثر تقلصا عندما يتعلق الأمر بالنساء، حيث يمارس التهميش والعزل ضد العنصر النسوي.

وفي تعليقها على النتائج، أفادت العومري أن مفهوم الحرية الفردية للمرأة محكوم بعادات، تقاليد، أفكار نمطية، وسياسات مختلفة. فوضعية المرأة مازالت محصورة داخل عقليات رجعية تبحث عن مرجعيتها في كل ما هو ديني وما هو عقيم، وهو ما يبرر إلى حد ما التحكم الهائل للمجتمع والجنس الذكوري وممارسة الوصاية والرقابة التي لا يمكن شرحها إلا بكونها تحكم وتسلط على المرأة ليس من طرف الآباء والأزواج فقطـ، بل وقد تجاوز الأمر إلى الأبناء فأصبحنا نرى أبناء يتحكمون في أمهاتهم.

وأضافت المتدخلة أن الفضاء العام لا يزال حكرا على الرجال رغم التطورات التي حدثت في  السنوات الأخيرة بولوج المرأة إلى معظم المجالات. وهذا ما يبقي النساء في المجال الخاص محكم الغلق، ليحدد دورهن في الإنجاب كدور اجتماعي رئيسي، و يلغى الدور الاقتصادي والسياسي والحقوقي.ويمكن تبرير هذا التحكم الممارس على المرأة من خلال فهم أدوار الأسرة، الإعلام و المدرسة في إعادة انتاج نفس الممارسات والسلوكات، بنفس الأفكار والعقائد رغم ما يعرفه العالم من تطور وتحديث على المستويين العلمي والثقافي.

وأشارت العومري كذلك إلى مفهوم التفاوض، وإلى أن هذا المفهوم لا وجود له في مجتمعنا، معتبرة أن التفاوض يكون بين عنصرين متساويين، لكن في هذا الوضع وفي غياب المساواة، يمكن الحديث عن التواطؤ والمسايرة، حيث أن النساء يسايرن ولا يتفاوضن، خوفا من الاصطدام وطمعا في بدء علاقات جديدة تسمح بتغيير معين عند الفتيات والنساء عامة. وقد أرجعت العومري، مشكلة عدم المساواة بين العنصرين إلى ثقل التنشئة الاجتماعية التي تربط حرية المرأة بعبارات "سيبة وعدم انضباط" .

الإدريسي : على القانون أن يعكس تطورات المجتمع

      تطرق المحامي بهيئة الدار البيضاء، محمد حسني الإدريسي إلى العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع من الناحية القانونية حيث شبه التعمق في العلاقة بينهما وملامستها بالدخول في علاقة حرب أهلية مزدوجة.
و لمحاولة مقاربة هذا الموضوع يؤكد الدكتور الإدريسي وجود قضايا من المفيد الخوض فيها كمفهومي الصراع والسلطة، وما يوفره هذين المفهومين من قدرة على توضيح الحدود الذي يرسمها المجتمع للفرد. وأضاف المتدخل أن  مفهوم حرية المعتقد، بغض النظر عن حمولاته الإبستمولوجية والسوسيولوجية والسياسية وغيرها، فمن الناحية القانونية يعتبر تصدير الدستور الذي يتضمن في آخر فقرة منه أن هذا التصدير يعتبر جزءا من النص الدستوري، يعتبر دليلا قوي على أن المغرب يحتكم إلى المواثيق الدولية، وما يتضمنه القانون الدولي لحقوق الإنسان بشكل لا يقبل التجزئة. ومن جانب آخر، اعتبر محمد حسني الإدريسي أن مفهوم الصراع الاجتماعي يمكن فصله إلى جانبين الأول يهتم بممارسة الفرد لحقه في الصراع و لآخر يحيل إلى مفهوم السلطة بكل أنواعها و اتجاهاتها الفردية والشمولية ، وذلك لمحاولة البحث في السؤال :" لماذا هناك دول كالمغرب لم تتوفق بعد في ارساء مشروعها التنموي بشكل كامل؟ 

من الناحية القانونية، يقول الأستاذ الإدريسي، إن مفهوم حرية المعتقد يجب أن يرتكز على قانون يوفق بين ماهو اجتماعي وحقوقي ويكون آلية للتوافق الإجتماعي، ويظهر لنا أن السائد في المجتمع هو اختزال الحرية في بعض المظاهر التي تضع مواجهة مباشرة بين المجتمع و الحرية. وأضاف:" ويجب على هذا القانون كذلك أن يكون وضعيا أي متلازما مع المستوى الذي يصل اليه النضج المجتمعي"، وهنا يمكن أن نذكر الفصل 25 من الدستور حيث ينص على ان "حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، ومن ثمة فأي قوانين تتخالف وتتعارض مع هذا النص القانوني فهي تتعارض أيضا مع الدستور. و إجابة على سؤال سابق حول المدخل الأساسي لتغيير القوانين الماسة بالحريات، أكد المتدخل أن النقاش حول فلسفة القانون وتقريب نصه من الصيغة الوضعية سيساهم وبشكل كبير في التحرر من القيود التي تجاوزها المجتمع سلوكيا.