نسخة تجريبية

شراك: من "الخطاب الخربشي" إلى "الثورات التأسيسية"



تمهيد

من بين كل المثقفين الذين طبعوا الفعل الثقافي المغربي في الثلاثين سنة الأخيرة نقدا، تحليلا ودراسة يبرز إسم السوسيولوجي أحمد شراك. القليلون مثله، استطاعوا الحفاظ على استمرارية الإنتاج في مجالات متعددة مع القدرة في كل لحظة على حيازة قصب السبق لكشف قارات معرفية جديدة وعتبات بحثية متقدمة. في المجال السوسيولوجي، يعتبر أحمد شراك أحد الوجوه البارزة التي طبعت الساحة المغربية والعربية سواء من الناحية الكمية أو الكيفية. فعلى المستوى الكمي يتجاوز رصيده العشرين كتابا، أما من الناحية الكيفية، وهذا هو الأكثر دلالة، فإن شراك اقتحم مجالا معرفيا يعتبر فيه رائدا بلا منازع. إنه مجال سوسيولوجيا الهامش. يعضد زعمنا هذا، وقائع وأحداث جسدها الربيع العربي باعتباره حالة من حالات انبثاق كائن هامشي ضاق ذرعا بواقع اجتماعي وسياسي واقتصادي كابت وقابض للأنفاس. أما على المستوى النظري، فإن مغامرة التأسيس لسوسيولوجيا الهامش لدى شراك ستستمر، في رأينا، لتنتج إطارا نظريا وتحليليا جديدا، استعار في العديد من فصوله، المتراكم من سوسيولوجيا الهامش لبناء متن "سوسيولوجيا الربيع العربي".

سوسيولوجيا شراك: مقتربات تكاملية ورفض التعالي

يتأسس مشروع شراك على وظيفة معينة للسوسيولوجي. وهي الوظيفية المتمثلة في اكتشاف البنيات الأشد عمقا حسب تعبير بيير بورديو. هذا المنحى الذي اتخذته أعمال شراك بوضوح من خلال عمله المركزي المتمثل في الاشتغال على الخطاب الخربشي تتجسد ونحن نستعرض المطبخ الداخلي للعمل الميداني المنتج للبحث. يبدو هذا المنحى متأصلا عند مطالعة دواعي الاختيارات الموضوعية والمنهجية حيث يبرر اختياره لموضوع الخربشات كموضوع سوسيولوجي بمحاولة تجاوز "اللعن" والاتهام بالوقاحة وسوء التربية التي يتم النظر بها إلى الكتابة على الجدران كظاهرة لافتة في المغرب وفي العالم العربي ومنتمية إلى خطاب الهامش. هذه الهامشية، لم تمنع شراك من تناولها كمبحث سوسيولوجي لا يؤمن بمنطق التعالي المتعالم، ولا يحبذ ذلك الاهتمام بالقضايا الكبرى أو ما يسميه بورديو قضايا الوجاهة النخبوية المنضوية في الغالب ضمن تيمات علم الاجتماع السياسي وغيرها. بل إن منطقه السوسيولوجي ينحو إلى بناء سوسيولوجيا الميكرو، وهو في ذلك على خطى جورج زيميل وهو يبحث في الأشكال الأولية للتفاعلات الاجتماعية من خلال ظواهر مصغرة عبر تجميعها يمكن فهم النسق العام.
تنبني رؤية شراك ضد منطق التعالي، وهي رؤية تشكل أيضا جزءا من فلسفة حياة مؤسسة نظريا لدى الباحث، فيعلن السوسيولوجي حسمه مع التصورات التيولوجية والأخلاقية، مقتحما المقاربة العلمية المبنية على سؤال اللماذا؟ وهنا يقول »لا أخفي أنني كنت أنظر إلى الغرافيتيا من زاوية تيولوجية أخلاقية، ألعن ممارستها في السر والعلن معتبرا إياها كتابات ساقطة، ماجنة، وقحة، تنم عن خلل في التربية وعطب في التنشئة، لكن مع مرور الوقت، بدأت تلح علي أسئلة أخرى: ما الداعي إليها؟ لماذا تمارس بهذه الكثافة إلى حد اعتبارها ظاهرة كتابية اجتماعية وجمعية ووشما حقيقيا لجسد المدرسة؟ فبدأت أبحث عن أفق لأجوبة مغايرة بدأت أفكر في مناولتها، خاصة أنها بقيت في الظل، بعيدة عن مناطق الضوء السوسيولوجي والبحث العلمي بصفة عامة«
  في هذا التوضيح المنهجي والنظري لمنطلقات الاشتغال، يبدو أحمد شراك دوركايميا من حيث ضرورة القطع مع الحس المشترك في أفق تعريف سوسيولوجي للظاهرة كموضوع لعلم الاجتماع، ظاهرة تتمتع بقوة قهر خارجية، باستقلاليتها وبعموميتها. وهنا تبدو تلك القدرة على إحداث القطيعة مع المناولة اليومية والحس المشترك باعتبارهما عائقا أمام انبناء النظرية العلمية. هذه القدرة على إحداث القطائع بحثا عن الأفق العلمي، هي الميزة الخاصة التي تجعل شراك قادرا على استيعاب مقتربات متعددة متجاوزا كل تنميط ومستحضرا تخصصات متواشجة مع السوسيولوجيا كاللسانيات، وعلم النفس، والتاريخ.
لكن إذا كان شراك يبدو دوركايميا وهو يمتح في أفقه المعرفي والنظري من منطلقات قواعد المنهج السوسيولوجي في ضرورة القطع مع الحس المشترك والتحليل العامي، فإنه بالمقابل يتجاوز هذه النزعة الوضعية مسافرا في عوالم البحث الفرداني وخاصة في الشق المتعلق بالتركيز على الأبعاد الرمزية في مناولة الظواهر.
 في دراسته للخربشات، تبدو تأثيرات التفاعلات الرمزية، على طريقة إيرفين غوفمان وغيره، وهو ينظر إلى سلوك الفرد باعتباره انعكاسا لعملية التفاعل الاجتماعي المستمرة في المجتمع. هذا الفهم ينطلق من تعريف المجتمع باعتباره نتاج العلاقة المتفاعلة بين العقل البشري والنفس البشرية... ولا وجود للعقل أو النفس خارج المجتمع الانساني لأنهما متفاعلان ومتلازمان.
هذا التوجه النظري المركز على الأبعاد الرمزية والعلائقية في فهم الظواهر، يبدو اضحا من خلال التوصيف الذي يعطيه الكاتب لموضوع بحثه: "الغرافيتيا خطاب مكتوب يتخذ صبغة المناولة والمتابعة اليومية للإنسان ككائن رامز، يشكل فيه البعد الرمزي ملمحا أساسيا على الصعيد الأنطولوجي للإنسان "كوجود دال وفعلي" في أبعاده الثقافية والنفسية والاجتماعية. خطاب لا يمكن تجاهله أو تجاوزه بغض الطرف، أو ممارسة خطاب تيولوجي من أجل دحضه وتسفيهه وتتفيهه، إنه خطاب ينم عن نبض تلقائي وحقيقي للإنسان ككائن اجتماعي".

شراك : مسار مثقف عضوي

لا يمكن فهم سوسيولوجيا أحمد شراك دون العودة إلى المصادر الأولى لتكوينه وهي مصادر تمتح من حقول معرفية مختلفة تتراوح ما بين الأدب، الفلسفة وعلم الاجتماع. إن ترتيب هذه المصادر لا يعني نوعا من التراتبية ولا يعني أسبقية أحد على الآخر.
قبل أن ينتمي شراك إلى "قبيلة السوسيولوجيا" رسميا عبر الحصول على الاعتراف الشهاداتي والحصول على الدكتوراه، مارس شراك تدريس الفلسفة بكل ما يعنيه ذلك من وضعية للفلسفة على عهد سنوات السبعينيات والثمانينيات، وأجواء صراع إيديولوجي محتدم. وفي خضم هذا الصراع، ظل شراك مؤمنا بان مجال صناعة الأفكار، هو مجال الثقافة بامتياز. وهكذا اقتحم عالم الثقافة سواء في مستواها "الأدبي" أو في مستواها "السوسيولوجي". في المستوى الأول أنتج أعمال تترواح بين النقد الأدبي والقصيدة، والأدب الجغرافي. أما المستوى الثاني، فدشنه ببحثه في الإجازة حول واقع الجمعيات الثقافية بمدينة فاس.
هذا الانتقال استثنائي في الحالة المغربية. ففي ظل أجواء الصراع المحتدمة وإكراهات البحث السوسيولوجي والعلاقة المتوترة له مع القرار السياسي، انتقل عدد من السوسيولوجيين المغاربة من البحث السوسيولوجي إلى عوالم الخيال والإبداع بحثا عن متنفس أكبر. إن الأمثلة على ذلك كثيرة. يمكن في هذا الصدد أن نذكر بحالة العروي المزاوج بين البحث التاريخي الاجتماعي وإنتاج الرواية. والأمر ذاته ينطبق على فاطمة المرنيسي، التي استقرت في عالم الرواية والخيال، وهو الأمر ذاته الذي ينسحب على صاحب النقد المزدوج عبد الكبير الخطيبي.
في عملية سفر عكسية، انتقل شراك من عوالم التأمل الفلسفي والانتاج الأدبي إلى ساحات البحث السوسيولوجي، رغم كل ما يشكله ذلك من إكراهات. هذه الاستثنائية، تضع شراك ضمن الخانة الحقيقية لمفهوم المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي والحريص على الاندماج والمساهمة في مناقشة الشأن العام على الطريقة الموروثة عن زولا وسارتر.  يظهر ذلك بوضوح أيا كانت الصفة التي تحدث بها شراك: أديبا، ممارسا للفسلفة أو سوسيولوجيا. غير أن استثنائية شراك، بالرغم من التزامه العضوي، هي تلك القدرة، على خلاف عدد من النماذج، الحفاظ على المسافة اللازمة بينه وبين الخضوع لأي حزب، أو جماعة ولو كانت الجماعة العلمية ذاتها بكل تشظياتها، ورهاناتها.

بعيدا عن علم الاجتماع "النبوي" وقريبا من الديكارتية

ينطبق على أحمد شراك صفة الأستاذ الحقيقي الذي وصفه ماكس فيبر في رجل العلم والسياسة: "إنه يحتاط من فرض موقف معين على الجمهور سواء بصفة مباشرة أو تلميحية. إنه ليس نبيا، كما أنه لا يمارس الديماغوجية، بل ينزل إلى الشارع ويتحدث أمام الجمهور".
  يدرك شراك أن علم الاجتماع كعلم ناشئ، يعاني من أسئلة البداية والمتمثلة في الأساس في مدى موضوعية البحث السوسيولوجي وقدرته على الفصل بين الذات والموضوع. لذلك، لا بد من تجنب فرض القيم الشخصية على الحقيقة الاجتماعية.  صحيح، إن شراك يؤمن بوجود واقع موضوعي قائم بذاته، لكنه يعترف في نفس الوقت بأن الوقائع الاجتماعية هي وقائع ذاتية من حيث أن لها دلالات خاصة عند الفاعلين الاجتماعيين.
هذا الحس الإبستيمولوجي المتسم بالحذر، يبقى حاضرا في أعمال شراك فنجده في سوسيولوجيا الربيع العربي مثلا، يفتتح نصه بالكثير من الأسئلة سواء على مستوى ما يسميه "حراك المفاهيم" أو المقاربة المنهجية وصولا إلى مساءلة النتائج. فعلى المستوى المفاهيمي، لا يطمئن كثيرا إلى اللغة المتداولة انطلاقا من وعي سابق مبني على أن " هناك مفاهيم تبقى راكدة في ميدان المعرفة. إلى أن يأتي حدث جلل من قبيل الهزات والتحولات والتغيرات...فتطفو إلى السطح ويعاد بناؤها وتوظيفها وقبل ذلك قد يعاد النظر في حمولتها". سؤال المفاهيم وبنائها لا تقف عند مسألة الموضوعية في علم الاجتماع، كعلم يعتبر فيه الإنسان الدارس والمدروس، بل يتجاوز ذلك نحو طرح سؤال وجودي بين العلم والواقع ومدى العلاقة القائمة بينهما. وهنا يوجه شراك سؤالا لا يتوقف عند حدود جغرافية معينة بل يتعداها إلى مساءلة مسار ومآلات هذا النوع من المعرفة الإنسانية: "هل قدر العلم الإنساني والاجتماعي، مرتبط بالواقع؟ لا يتململ إلا بتململ الواقع؟ إلا إذا شهد هذا الواقع هزات أو توترات أو تغيرات؟".
ويصل شراك في مستوى آخر، إلى إعادة النظر في العدة المفاهيمية عبر إخضاعها لنقد متعدد الأبعاد يحاور استعمالاتها الأصلية، واستعمالاتها المحلية ومن ثمة مدى إمكانية موقعتها داخل فضاء المعرفة السوسيولوجية العلمية. وهكذا، يعود شراك مثلا في كتابه سوسيولوجيا الربيع العربي إلى المفهوم اللغوي ثم يعرج على الاصطلاح ليصل في النهاية إلى حقل تتواشج فيه التسميات خاصة وأن التسمية جزء من منح المعنى. لا يمكن، حسب هذا المنظور، أن نرتكن إلى لغة إعلامية تداولية هدفها قنص اللحظة لدوافع غير علمية. وهنا يستعمل شراك مقص التشذيب المفاهيمي عبر سؤال مركزي يسائل الحس المشترك ويسائل التماهي بين المفهوم الإعلامي واستعمالاته المكثفة كحقيقة لا تقبل النقد. يقول شراك: "إن السؤال المطروح: ما السر في إعادة استعمال هذه التسمية ورواجها العريض هنا وهناك؟".
إن اجتراح المفاهيم في السوسيولوجيا والعبور بينها سواء على مستوى الجغرافيا أو الحقول المعرفية ملئ بالمخاطر، لأن تهجير المفاهيم من حقل اشتغال إلى آخر أو من منطقة جغرافية إلى أخرى غالبا ما يصيبها بالتشوه، إن هي ظلت دون تشذيب ومواكبة بالنقد. تعود الخطورة الأولى، حسب شراك، إلى مشكلة التماهي بين الوقائع والاحداث. وهنا يتضمن نص شراك تخوفا من نوع من المركزية الغربية المبنية على منح المعنى اعتمادا على خط تطوري للمجتمعات والحضارات. وهنا يدخل حذر شراك مرحلة متقدمة من  إعادة التساؤل باستمرار عن الرابط بين كلمة ربيع عربي واستعمالاتها داخل الفضاء الأوروبي. وانطلاقا من هذا الحذر والحيطة يبدو شراك ديكارتيا محاولا في كل مرة إعمال مشرط الشك لتشريح الاستعمال المفاهيمي في إطار جهد متواصل للتدقيق والتعيين والتخصيص. ومع كل الجهد المبذول في هذا الصدد لا يرتكن شراك إلى المفهوم باعتباره حقيقة مطلقة، بل باعتباره محاولة لتشخيص واقع عياني متحرك وديناميكي.
هذه الذات الديكارتية التي تسكن شراك تجعله مثلا يختتم فصل "حراك المفاهيم" في سوسيولوجيا الربيع العربي بسؤال دال" هل ما قدمه هذا الفصل من إشارات وإيثارات لمفاهيم عديدة، هل هو كاف للإجابة عما طرحناه في العتبة؟ الذي لم يكن ربما من أجل الإجابة والحسم في جوهر الفصل وإنما لإثارة الانتباه...".  

من سوسيولوجيا الهامش إلى سوسويولجيا الربيع العربي

في عام 2002 ناقش أحمد شراك أطروحته للدكتوراه والتي خصصها للخطاب الخربشي ونشرها على شكل كتاب معدل في أكثر من طبعة.  بعد 18 سنة يعود أحمد شراك إلى هذا المتن ليستثمره كأداة تفسيرية وتفهميه لواقع عربي اتسم بنوع من "الأنوميا" واختلال المعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لم تعد بنيات السلطة القائمة في مستوياتها الرمزية أو المادية قادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة. واتضح أن ما يسميه أحمد شراك الثورات التأسيسية قائم على التواصل الإلكتروني غير أن خطاب الغرافيتي يحتل فيها حصة الأسد. يقول شراك في الفصل الثاني من كتاب الخطاب الهامشي والغرافيتيا: "أستطيع أن أزعم بأن خطاب الغرافيتيا يحتل حصة الأسد في الثورات التأسيسية...سواء على صعيد التواصل الإلكتروني في الفضاء الافتراضي، في مرحلة الحشد والتعبئة والتجنيد للفوران والاحتجاج أو على صعيد التواصل الجماهيري في الواقع، في الشوارع والطرقات والميادين أثناء قيام الثورات وحركيتها وفعلها في الواقع السياسي...".
ما بين أطروحة "الهامش الخربشي" واندلاع ما اصطلح عليه الربيع العربي مسافة زمنية ليست باليسيرة. لكن هل كان ذلك الإنتاج نوعا من التتبؤ السابق لأوانه. هل يمكننا أن نفهم ذلك السؤال  الإبستيمولوجي الذي طرحه شراك "هل قدر هذا العلم مجرد التشخيص والتفسير دون أن تكون له القدرة على التنبؤ؟ ".
في حوار مع إحدى الجرائد، ربط شراك الخطاب الغرافيتي بالصراخ الاحتجاجي " يبدو أن الصراخ سمة من السمات الداخلية والخارجية للكتابة الغرافيتية. وأما السمات الداخلية فهي تلك المتعلقة بتكوين هذه الكتابة ومورفولوجيتها على صعيد الوسائل والفضاء ونوعية الخط وأما السمات الخارجية فهي المضامين والمحتويات التي يحفل بها الغرافيتي باعتبارها كتابة تعبر عن الألم بالمعنى الواسع للألم (الألم النفسي والاجتماعي...) والتعبير عن الاحتجاج على أوضاع سياسية واجتماعية وحضارية وثقافية".
مهما اختلفت وظيفة العلم، ومهما تعددت التوجهات، يمكن أن نحصر هذه الوظيفة في المستويات التالية: الوظيفة العلمية الهادفة إلى تطوير العلم نفسه. والوظيفة  الاجتماعية باعتبار أن موضوع العلم بمثابة نشاط إنسانى واع ومقصود ومرتبط بالسياق المجتمعى. وإذا كان تصنيف النظريات سواء داخل الحقل السوسويولوجي أو غيره لا يزال محط نقاش ومراوحة، فإن أهم ما يمكن للعلم أن يساهم فيه هو القدرة على بيان المسارات والمآلات ولما لا التنبؤ بها اعتمادا على ربط المعطيات وقراءتها وتحليلها.
في إنتاجاته ، نجح شراك في هذه الوظائف مجتمعة، من خلال إسهاماته في دراسة مواضيع شكلت تطويرا للسوسيولوجيا ذاتها سواء من خلال المنهج أوالتيمة. هذا الوعي الحاصل لدى شراك بوظيفة تطوير العلم، نجده يبلوره في خطاب صريح حيث يقول: "قد يكون من الضروري إنتاج متون حول الغرافيتيا في مختلف الفضاءات والأمكنة وتصنيف خطاباتها واهتماماتها أما التحليل والتأويل فقد يكون مثار اختلاف في المنهج والرؤية والأداء، ولكن من المؤكد أننا سنكون أمام خطاب مبني، ويرصد ويعبر عن واقع حي وظليل يشكل موضوعا خصيبا للبحث العلمي وعلى رأسه البحث السوسيولوجي".
السوسيولوجيا المغربية إذن  مدينة لشراك بما دشنه من بحث معرفي قد يكون الأول في العالم العربي، إنها وظيفة الكشف عن مجالات اشتغال قد تكون هامشية غير أنها تشكل علامات دالة يمكن بواسطتها فهم البنيات الأشد خفاء.
 أما الوظيفة الثانية الاجتماعية للعلم، فمفادها تلخيص الوقائع وتقرير وجود خيط ناظم بينها. هذه الوظيفة تنحو نحو نوع من التنبؤ بما سيحدث في المستقبل. على هذا المستوى، يمكن المجازفة بالقول بأن دراسة الهامش من خلال دراسة الخطاب الخربشي، جعل شراك يصل إلى مستوى يمكن ان أجازف وأقول بأنه تنبئي.. يقول في خاتمة" الغرافيتيا": "وأما على الصعيد المجتمعي، فلا شك أن المعطى الاجتماعي الهامشي له دور أساس في إيقاع المجتمع ونبضه وتلفيظه المضمر والمنسي والمقصي حتى، ضمن جدلية المؤسسة والهامش، ما بين مؤسسة نافذة ومهيمنة وهامش متنطع ومنفلت من هذه الهيمنة. ولعل أهمية الهامش في التعبير عن مساحة هذا التنطع والانفلات وسقوفه وحدوده". إن خطاب الهامش الذي أطل من خلاله شراك على واقع مجتمعي عميق وبمقتربات جديدة جعلتنا ونحن نقرأ كتاب الغرافيتيا وكاننا نستعد لموجات الربيع العربي باعتباره صرخات احتجاجية تجسدت على الحيطان قبل أن تنزل إلى الشارع وتنهي عروش حكام وتدخل بلدان أخرى في متاهات لا تنتهي من دوامات العنف والدمار والاقتتال.

خاتمة

من "الغرافيتيا" إلى سوسيولوجيا الربيع العربي عنوان واحد من بين عناوين أخرى لمساهمات السوسويولجي شراك. لكن أهم عنوان لها هو أن عملية بناء المفاهيم في كل العلوم ومن بينها السوسيولوجيا هي أساس انبناء الصروح النظرية والفكرية، والمفاهيم تبقى في النهاية وسائط إذا انبنت على أساس سليم تصبح مفاهيم جيدة قادرة على طرد المفاهيم الرديئة. وتظل المقاربات التي تؤسس لها تمتح منها عناصر القوة التي تجعل منها قادرة على قراءة الواقع قراءة صحيحة وسليمة. سواء في الغرافيتيا أو في سوسيولوجيا الربيع العربي، ظل العنوان العريض هو البناء المفاهيمي السليم. وهنا نستحضر هذه المحاولات الحثيثة لتأطير النص المنتج عبر مفهوم جامع هو "حراك المفاهيم" الذي نحت عددا من التوصيفات لعل أبرزها وسم الربيع العربي بالثورات التأسيساتية بما يعنيه ذلك من حمولة التأسيس لفضاء مختلف، فضاء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فضاء كان عند دراسة الغرافتيا والخطاب الهامشي مجرد صرخات على جدار الفضاءات الداخلية والحميمية، قبل أن ينتقل الصراخ إلى جدارات أقوى من حيث رجع الصدى، جدران الإلكتروني والافتراضي. استطاع شراك إذن، بروحه الديكارتية النقدية، وبابتعاده عن التنظيرات الفوقية، وبابتعاده عن كل تعال مجاني، أن يلتقط الإشارات ضمن متن سوسيولوجي قادر على أن يكون فعلا تأسيسيا على غرار مفهومه المتميز " الثورات التأسيسية". إنه متن تأسيسي منفتح، ويتوفر على قوة دفع بحثية تحتاج من الأجيال اللاحقة مواصلة المغامرة من أجل بناء سوسيولوجيا يكون فيها للمنتج المغربي إسهاما نظريا، ميدانيا أصيلا ومتأصلا.
 
عزيز مشواط، أستاذ علم الاجتماع/ جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء

قدمت الورقة بمناسبة تكريم أحمد شراك في إطار فعاليات وجدة عاصمة الثقافة العربية 2018*