نسخة تجريبية

جيل: الخبرة الجينية على طاولة النقاش


شهدت مدينة الدارالبيضاء يوم السبت 22 فبراير 2025 أشغال اللقاء الثالث ضمن سلسلة "أوراق بحثية: خيارات وبدائل مجتمعية"، في إطار النسخة الثالثة من برنامج جيل فاطمة المرنيسي، والذي نظمته مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية. تناول هذا اللقاء موضوع الخبرة الجينية انطلاقا من مقاربات تتداخل بين المعرفة العلمية والتشريعات القانونية والتصورات المجتمعية. وعرف مشاركة الباحثة كوثر طربوش، التي قدمت ورقة سياسات في هذا الإطار، إضافة إلى مداخلات من النائبة البرلمانية عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عتيقة جبرو، والفاعل الحقوقي ياسين رفيع بنشقرون رئيس الجمعية المغربية لليتيم، كما أدار أشغال هذه الفعالية الصحفية عزيزة غلام.

كوثر طربوش: أطفال بلا هوية

تناولت الباحثة كوثر طربوش من خلال ورقتها التعقيدات القانونية لإثبات النسب وتأثيرها على مستقبل الأطفال، إذ تبقى هذه الإشكالات القانونية المتمثلة في عدد من مواد مدونة الأسرة، عائقا أمام منح الطفل المولود خارج إطار الزواج نسبا حقيقيا إسوة بباقي الأطفال، كما ركزت هذه الورقة على معطيات بحثية وعلمية تحيل على تضاعف عدد الأطفال المتخلى عنهم، حيث أضحى هذا الوضع يدق ناقوس الخطر، خصوصا في ظل المقتضيات القانونية التي تقف عائقا أمام حق هؤلاء الأطفال في النسب.

كشفت الورقة من خلال الدراسة الميدانية التي اعتمدتها عن عدد من الحالات لأطفال بدون نسب، والذين تتكفل بهم دور الرعاية الاجتماعية أو بعض مؤسسات المجتمع المدني، حيث أظهرت هذه الحالات كيف يساهم وضع الأطفال بدون آباء أو نسب، في خلق وصم اجتماعي يستهدف بشكل مشترك الأمهات إضافة إلى الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. يتجلى هذا الوصم في نعوت تحقيرية لا تنتهي: "ولاد الزنقة، ولاد الحرام..."، والذي يتحول بدوره إلى إقرار ذاتي بالذنب: "حنا موسخين..."، مما يكرس تمييزا بين الأطفال، وهو ما يؤدي إلى عرقلة إدماجهم في المجتمع وما يرافق ذلك من مشاكل نفسية واجتماعية تؤثر على استقرارهم ومستقبلهم.

في هذا السياق، أوصت الباحثة كوثر طربوش عبر الورقة البحثية المنجزة بمراجعة المواد القانونية في مدونة الأسرة ذات الصلة بهذه المشكلة الاجتماعية، بما يضمن إضافة الخبرة الجينية في بنود إثبات النسب في حالة النزاع. إضافة لتمكين الأطفال المولودين خارج إطار الزواج من جميع حقوق المترتبة عن إلحاق النسب بأبيهم البيولوجي.

عتيقة جبرو: إلغاء الخبرة الجينية يعمق الأزمة

في نفس السياق أكدت النائبة البرلمانية عتيقة جبرو في مداخلتها، على تبني كل القوى الحداثية في المغرب لقضية الأطفال المتخلى عنهم، وحقهم في الحصول على النسب، كما ركزت على أهمية البحث العلمي في الكشف عن خبايا هذه الظاهرة الاجتماعية. من جهة أخرى أشارت جبرو إلى أن التعديلات المقترحة حول مدونة الأسرة، خاصة فيما يتعلق بمسألة الخبرة الجينية كوسيلة لإثبات النسب، أفرزت عدة إشكالات، حيث أوضحت في هذا الإطار بأن الفرق البرلمانية ستعمل على معالجة هذه الإشكالات من داخل اللجان البرلمانية، وذلك ضمن مقاربة تشاركية بين كل الأطراف. واعتبرت في حديثها حول رفض المجلس الأعلى للبصمة الجينية أن المشكل ليسا فقط شرعيا بل هو مشكل مجتمعي بالأساس.

ركزت عتيقة جبرو على أن الظاهرة الجنسية هي موجودة عبر التاريخ، حيث كانت هناك عدة آليات لإثبات النسب كالإقرار مثلا، والذي لا يزال مستمرا إلى الآن، وهكذا تعتبر أن إلغاء الخبرة الجينية يؤثر على التزام الرجل بالإقرار، وهو ما يساهم في مفاقمة الظاهرة. كما أشارت إلى أن الأطفال المولودين خارج إطار الزواج يشكلون خطرا على المجتمع بسبب التنشئة غير السليمة التي يتعرضون لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إلغاء هذه الخبرة يكرس مزيدا من الانحراف. وهو ما يستدعي العمل بشكل جاد لإيجاد حلول حقيقية لهذه الظاهرة.

في نفس الاتجاه تطرقت جبرو إلى توقيع المغرب على عدة اتفاقيات دولية قائمة على عدم التمييز بين الأطفال، وحماية حقوقهم المدنية والاجتماعية، حيث اقترحت في هذا الصدد مراجعة هذه التعديلات المقترحة بناء على اجتهادات دينية تراعي التحولات البنيوية الكبرى التي يعرفها المجتمع المغربي، من خلال فهم عقلاني للتشريع الديني بما يحفظ كرامة أفراد المجتمع. كما أعلنت على أنها ستكون صوت هؤلاء الأطفال المتخلى عنهم، داخل كل المؤسسات السياسية، من أجل الترافع على هذه القضية سواء في البرلمان أو لدى الحكومة.

ياسين رفيع بنشقرون: حماية الأطفال المولودين خارج إطار الزواج مسؤولية مجتمعية

في مداخلته خلال اللقاء الذي نظمته مؤسسة منصات، سلط الفاعل الحقوقي ياسين بنشقرون الضوء على الدراسات الميدانية لمؤسسة منصات واعتبرها بمثابة مرجع لهم في أعمالهم من داخل الجمعية المغربية لليتيم، حيث أكد على قيمة البحث العلمي في الإجابة على الإشكالات والقضايا المجتمعية المطروحة. كما دعا المؤسسات المسؤولة بالمغرب إلى إجراء دراسات وتقديم أرقام واضحة حول الأطفال المتخلى عنهم والمولودين خارج إطار الزواج.

وشدد بنشقرون على أن حالات الأطفال المولودين خارج إطار الزواج أغلبهم نتاج لحالات الاغتصاب أو الوعد بالزواج، أو الخطبة...، مقارنة بالحالات المرتبطة بما يسمى "الدعارة"، وهو ما يفند كون هذه الخبرة قد تكرس وضعا لتسليع الجسد وتكريس ظواهر الانحراف، وهذا ما يستدعي حسبه حماية الأطفال من الوصم الاجتماعي المترتب عن هذه الوضعيات، والتي يصبح عبرها الطفل ضحية طيلة حياته، كما أشار بنشقرون إلى خطورة التمييز بين الأطفال من خلال مقتضيات المادة 148 من مدونة الأسرة، والتي تتحدث عن الأطفال الشرعيين والأطفال  غير الشرعيين، حيث يتم التأسيس لهذا التمييز عبر القانون قبل المجتمع، وهو ما يستدعي مساءلة الفقه أولا باعتباره الأساس الذي بنيت عليه هذه التشريعات.

ودعا بشقرون من خلال مداخلته إلى قراءة جديدة للنص الديني بناء على الواقع الاجتماعي الحالي، كما طالب بإثبات النسب، واعتباره الغاية الأساسية، والتي تحقق المصلحة الفضلى للأطفال بكونهم في حاجة لهوية بيولوجية تحفظ كرامتهم. من جهة أخرى أكد بنشقرون على ضرورة تبسيط المساطر القانونية للأمهات العازبات من أجل إدماج أطفالهم في المؤسسات التعليمية والإدارية...، إضافة لتحقيق الانتماء للأطفال مجهولي الهوية والمولودين خارج إطار الزواج، من خلال إقرار التبني رحمة ورأفة بهؤلاء الأطفال.

عرف هذا اللقاء حضور عدد من الأطفال المتخلى عنهم والذين حكوا عن تجاربهم الصعبة من داخل مؤسسات الرعاية الاجتماعية، حيث أشار "يونس" اسم مجهول، إلى الكلفة النفسية الصعبة التي يؤديها هؤلاء الأطفال بسبب الانتقال من مؤسسة إلى أخرى، وهو ما يؤثر على استقرارهم النفسي والاجتماعي. كما تحدث يونس عن الظواهر الخطيرة التي تعرفها هذه المؤسسات من اغتصابات وتحرش جنسي، وظواهر إجرامية أخرى، حيث طالب يونس بضرورة القطع مع المشكلة من جذورها، بما يحفظ حياة وكرامة هؤلاء الأطفال، والذين ينتهي المطاف بأغلبهم إلى التشرد، والهجرة غير الشرعية، والانتحار، أو يصبحون عرضة لأمراض نفسية مختلفة...

في نفس السياق ساهمت مداخلات الحضور في بلورة عدة توصيات تمثلت في:

ü    إقرار الخبرة الجينية كوسيلة لإثبات النسب لدى الأطفال المولودين خارج إطار الزواج.

ü    إقرار التبني كوسيلة لتحقيق الانتماء للأطفال مجهولي الهوية.

ü    ضرورة مقاربة الظاهرة بمنطق إنساني يحفظ كرامة الأطفال.

ü    تفعيل الاجتهاد الديني بناء على الواقع الاجتماعي الحالي.

ü    إقرار الإجهاض كوسيلة لحماية الأمهات والأطفال من الوضع المترتب عن الإنجاب خارج إطار الزواج.

ü    تفعيل قطاعي التعليم والإعلام، باعتبار دورهما الأساسي في معالجة الظاهرة.

ü    اعتماد البحث العلمي في مقاربة الظواهر الاجتماعية الخطيرة، من أجل بناء تصور حقيقي وموضوعي حول واقع هذه الظواهر.

ü    اعتبار المصلحة الفضلى للطفل المرجعية الأساسية لإصلاح أي قانون أو تشريع.

يذكر أن هذا اللقاء يندرج في إطار مخرجات برنامج جيل، حيث أعدت الباحثة كوثر طربوش، بمعية المشاركين علي أوتشارفت ويسرى المسقي ورقة سياسات. ويأتي تقديم هذه الأوراق بعد سنة كاملة من التكوين والبحث الذي أشرف عليه باحثو مؤسسة منصات. وتناقش أوراق السياسات المعدة في إطار هذا البرنامج مجموعة من التيمات التي تهم تحولات المجتمع المغربي والنقاش الدائر حول القوانين التي تهم الفرد وحريته وعلاقته بالمجتمع والقانون. وتنظم هذه الجلسات بشكل دوري. يتم فيها استضافة خريجي برنامج جيل للنقاش مع فعاليات سياسية، مدنية، أكاديمية وحقوقية.