أحلام قفص،
باحثة رئيسية في منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية، أستاذة الاقتصاد بجامعة بن طفيل
لم يفرض فيروس كورونا المستجد تحديات على علماء الصحة والطب فقط، بل فرض تحديات جمة على العلوم الاجتماعية أيضا. لقد وضع هذا الفيروس التقدم العلمي الإنساني أمام مرآة عجزه. وضع هذا الفيروس الغامض ما يسمى بالعلوم الحقة موضع تساؤل، وبدت عاجزة بالرغم من كل التقدم العلمي الحاصل، غير أن هذا العجز، لم يمس البيولوجيا والطب والهندسة الوراثية وغيرها، بل أصاب أيضا علم الاجتماع، والعلوم السياسية والاقتصاد وغيرها. وهكذا، أعاد سياق أزمة كورونا إلى الواجهة، وبقوة مدى فهمنا، داخل حقل العلوم الاجتماعية، للتصورات والتمثلات الاجتماعية، للمرض، وللمريض، ولعلاقة الأفراد بالمؤسسات ومدى ثقتهم فيها، وحجم استعدادهم للتضامن فيما بينهم.
الثقة في المؤسسات: السر المفقود
لم تكن هذه الإشكاليات وغيرها، غائبة عن نقاشات الفريق البحثي لمنصات أثناء إطلاق المؤسسة لدراستها حول المواقف والتصورات والممارسات في زمن الحجر الصحي. ولعل النتائج الأولية لهذه الدراسة تبرر إلى حد كبير شرعية سؤال التصورات والتمثلات، خاصة في شقها الخاص بالمؤسسات وقيم التضامن. وتشير النتائج الأولية للدراسة أن أحد الأوراش التي على الفاعلين الانكباب على معالجتها مسألة الثقة في المؤسسات وكيفية استثمارها أو ترميمها.
لقد أسفرت النتائج الأولية عن بروز مؤشرات تُنذِر بضعف الثقة في بعض المؤسسات. فعلي سبيل المثال لا الحصر، يعود الخوف من فيروس كورونا بنسبة 30% لضعف المؤسسات الصحية في البلاد وليس لخطورته في ذاته. هذا مجرد نموذج سيأتي الوقت للتفصيل فيه عند عرض نتائج البحث التفصيلية. لكن، ولكي نفهم هذا النوع من المؤشرات يجب أن نعود قليلا إلى الوراء، فقبل أسابيعَ قليلة من ظهور الوباء، كان المغرب يعيش وضعا يدعو للقلق على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وقد تعالت الأصوات منبئةً بكون النموذج التنموي للمملكة لا يليق بتطلعاتها، بل وتساءل البعض عن حقيقة وُجودِه من الأساس.
استتبع ذلك نقاش عميق عُّيِّنت على إثره لجنةُ النموذج التنموي في 19 نونبر المنصرم من طرف أعلى سلطةٍ في البلاد. تتكون هذه اللجنة بالإضافة الى رئيسها من 35 عضوا على دِراية واسعة بالقضايا السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والبيئية. تهدف هذه اللجنة الى البحث في القضايا الشائكة بكثير من الجُرأة والموضوعية، فتلك هي التعليمات الملكية في انتظار نتائج ملموسة خلال صيف 2020. إن التركيز على الجرأة ليس وليد الصدفة، بل يفرضه كون المغاربة اليوم أصبحوا يعانون من أزمة ثقة في مؤسساتهم. ونقصد بالمؤسسات هنا ذلك المفهوم الذي صاغه دوغلاس نورث، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1993 والذي يُعتبر من أبرز المفكرين في نظرية المؤسسات. يقول نورث "إن المؤسسات هي تلك القيودُ التي صمّمها الانسان لكي تؤطر التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي". وبحسب النظرية آنفة الذكر، فإن درجة نجاعة هذه المؤسسات هي العامل الأساسي الذي يرتكز عليه صنع التطور والتنمية المنشودين.
جماعة العميان وأحوال الفيل
أجريت بالمغرب عدد من الدراسات لمقاربة مسألة الثقة في المؤسسات. وعلى قلتها وجنينيتها إلا أنها تظل دالة ومهمة. نذكر هنا على سبيل المثال، الدراسة التي قام بها المعهد المغربي لتحليل السياسات حول مؤشر الثقة وجودة المؤسسات. عرض المعهد النتائج الأولية للبحث في 03 دجنبر 2019 بالرباط، وقد ظهر من خلاله ما يلي: اجتماعيا، يثق المغاربة أولا وقبل كل شيء في أُسَرهم النووية الصغيرة؛ سياسيا، ليسوا راضين عن التوجه العام للبلاد، وعن الجهود المبذولة لحد الساعة من أجل محاربة الفساد، الشيء الذي جعلهم يوجهون ثقتهم أكثر لمنظمات المجتمع المدني. أما المُعطى الغريب و المُحَيِّر، والذي يدعو الى بعض التفاؤل في نفس الوقت، أن المغاربة لم يفقدوا الثقة في المؤسسات السيادية غير المنتخَبة كالشرطة والجيش، إذ تتمتع هاتان الفئتان بمعدلات ثقه تفوق بكثير المؤسسات المنتخَبة التي أعطاها المواطن صوته لِتُمثله، ونخص البرلمان بالذكر بالدرجة الأولى. والخلاصة هنا أن المغاربة بشكل عام يعانون أزمة ثقة ببعضهم البعض، بل وكذلك في مؤسسات عديدة ذات الأهمية البالغة.
في نفس النسق، أنتج الباحث والسوسيولوجي المغربي محمد الشرقاوي خلال العشرية الماضية تقريرا لفائدة المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، تساءل من خلاله عن دور الدولة ومختلف الفاعلين الاجتماعيين في نسج روابط متينة سياسيا واجتماعيا. ومن أبرز ما تطرق إليه في هذا التقرير عامل الثقة بشِقَّيه السياسي والاجتماعي في علاقتهما مع مفهوم العدالة الاقتصادية ومبدا تكافؤ الفرص. وقد اصدر نفس المعهد تقريراً آخر سنة 2012 يبين نتيجة مسحٍ وطني هدفه فهم الروابط الاجتماعية، خُصِّص في هذه الوثيقة حيزٌ مهم للرابط السياسي، ورابط المواطنة، كمحدِّدين أساسيين لجودة الروابط الأخرى.
اجتمعت الآراء من خلال كل هذه الدراسات، التي ذكرناها على سبيل المثال لا الحصر، على أن رابط الثقة في المؤسسات السياسية والاقتصادية أصبح هشًّا الى حدِّ دقِّ ناقوس الخطر، ذلك أن فقدان الثقة يهدم البنيان المجتمعي كما ينخر السُّوسُ الخشب. وهذا ما كان يجب أن نَعِيه قبل الوقوع في الجُحْر ومحاولة الخلاص منه، سيما وأن ثقافتَنا تَعُج بالعبر التي لم نَنفض الغبارَ عنها للأسف. فهل هناك أبلغُ من الحكاية الصوفية "جماعة العميان وأحوال الفيل" في رسم صورة لمجتمعٍ أشبه بمجتمعاتنا الآن؟ فقد كان للمتصوف حكيم سنائي الغزنوي مؤلف الحكاية باعٌ كبير، إذ أنه ألهم الكثيرين لعل أشهرهم جلال الدين الرومي.
تدور الأحداث في مدينة كان أهلها عميانا، مرَّ بهم ملكٌ فأحضر العسكر وضرب الخيام على مشارفها، كان ينوي المَبيت لليلة واحدة فقط، وكان للملك فيلٌ اتخذه من اجل الجاه والهيبة والصولة، ومن كثرة سماع العميان عن الفيل، رغبوا في اكتشافه. و إذ سطَّروا لأنفسهم هذا الهدف، تقدمت مجموعة منهم للقيام بالمهمة، فأسرع كل واحد منهم الى الفيل متعجِّلا وأخذ يلمسه بيده لكونه بلا بصر. وحينما عادوا للمدينة تجمع الآخرون حولهم، و بدأ الفريق بالسرد: قال ذلك الذي وقعت يده على الأذن إن الفيل سجاد كبير سميك، وذاك الذي وقعت يده على الخرطوم قال بل إنه افعى فارغه القلب، أما من لمس القوائم فقال إنه عمود مخروط، بينما كذَّبهم الأخير جميعا لأنه لمس الذيل، فبالنسبة له ليس الفيل سوى ريشةِ رسمٍ غريبة، تتقاذفها الريح. كلٌّ تشبث بِرأيه، وانقسم أهل المدينة بين مؤيد ومعارض، وانتهوا الى أنِ انفَضُّوا من حولهم لِكي لا تنشأ صراعاتٌ كبيرة، وكذلك لكونهم فقدوا الثقة في مرسوليهم جميعا. لم يصل العميان الى تحقيق هدفهم، وظلت حقيقة الفيل في علم الغيب.
خيارات المواجهة: الملاءمة واستثمار الفرص
قد تكون القصة مجازا من نسج الخيال، ولكن ما أشبه حال العميان بمواطنين فقدوا الثقة في المؤسسات التي تحدِّد مصيرهم. إن تخبُّط مؤسساتنا، وعدم وضوح خط السير الكفيل ببناء مجتمع يسير بخطىً ثابتة نحو التقدم والازدهار، يبقى السبب الرئيسي في تَكَوُّن صورة قاتمة لدى العديد من المواطنين وبعض المحللين. أما الآن، ونحن نقاوم أزمة منقطعة النظير، وجب علينا أن نؤمن و نأمل بأن النور يولد من رَحِم الظلام، فإمكانيه استدراك الخطأ، وتغيير هذه الصورة عن طريق تحسين أداء مؤسساتنا تبدو جدّ واردة. إن حسن تدبير الأزمة الحالية، سيدفع لامحالة بمؤشر الثقة نحو الأعلى، والعكس بالعكس صحيح ايضا، لأن اتخاذ القرارات الخاطئة سيجد الأرض خصبة لتوسيع الهوة الموجودة بين المجتمع والمؤسسات المؤطرة لتنظيمه. فصندوق التضامن لمواجهة كورونا مثلا هو فرصة من ذهب لإثبات الكفاءة والنجاعة وحسن التسيير، كلها أشياء يترقّبها المواطن المغربي، فهو اليوم متيقظ، يتتبع بكل اهتمام القرارات المتخذة ويُقيِّمها على ضوء تجاربه السابقة وانتظاراته المستقبلية، إنه يتطلع لرؤية الضوء في آخر النفق، فهل نحن نسير في المنحى الصحيح؟
نواجهُ جميعًا اليوم أزمة من نوعٍ جديدٍ غيرِ معهود، إنه مأزق لم نكن لنتوقعه، فنحن في بيوتنا نَقْبع وكأننا نخشى ميدوسا (Méduse). أصبح فيروس كورونا يترقبنا كما ترقب هذا الوحش الميثولوجي ذو الرأس المليءِ بالأفاعي كلَّ من دنا من المعبد، فيُحوِّله صنماً بلا روحٍ. وإذ نحن وسط هذا الزخم، توجب علينا استخلاص العِبر، فدوام الحال من المحال، والأجدر بنا أن نتقبل الواقع ونستغل الفرص لتقييم خياراتنا الخاصة والعامة، أفرادا، شعوبا وحكومات.
باحثة رئيسية في منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية، أستاذة الاقتصاد بجامعة بن طفيل
لم يفرض فيروس كورونا المستجد تحديات على علماء الصحة والطب فقط، بل فرض تحديات جمة على العلوم الاجتماعية أيضا. لقد وضع هذا الفيروس التقدم العلمي الإنساني أمام مرآة عجزه. وضع هذا الفيروس الغامض ما يسمى بالعلوم الحقة موضع تساؤل، وبدت عاجزة بالرغم من كل التقدم العلمي الحاصل، غير أن هذا العجز، لم يمس البيولوجيا والطب والهندسة الوراثية وغيرها، بل أصاب أيضا علم الاجتماع، والعلوم السياسية والاقتصاد وغيرها. وهكذا، أعاد سياق أزمة كورونا إلى الواجهة، وبقوة مدى فهمنا، داخل حقل العلوم الاجتماعية، للتصورات والتمثلات الاجتماعية، للمرض، وللمريض، ولعلاقة الأفراد بالمؤسسات ومدى ثقتهم فيها، وحجم استعدادهم للتضامن فيما بينهم.
الثقة في المؤسسات: السر المفقود
لم تكن هذه الإشكاليات وغيرها، غائبة عن نقاشات الفريق البحثي لمنصات أثناء إطلاق المؤسسة لدراستها حول المواقف والتصورات والممارسات في زمن الحجر الصحي. ولعل النتائج الأولية لهذه الدراسة تبرر إلى حد كبير شرعية سؤال التصورات والتمثلات، خاصة في شقها الخاص بالمؤسسات وقيم التضامن. وتشير النتائج الأولية للدراسة أن أحد الأوراش التي على الفاعلين الانكباب على معالجتها مسألة الثقة في المؤسسات وكيفية استثمارها أو ترميمها.
لقد أسفرت النتائج الأولية عن بروز مؤشرات تُنذِر بضعف الثقة في بعض المؤسسات. فعلي سبيل المثال لا الحصر، يعود الخوف من فيروس كورونا بنسبة 30% لضعف المؤسسات الصحية في البلاد وليس لخطورته في ذاته. هذا مجرد نموذج سيأتي الوقت للتفصيل فيه عند عرض نتائج البحث التفصيلية. لكن، ولكي نفهم هذا النوع من المؤشرات يجب أن نعود قليلا إلى الوراء، فقبل أسابيعَ قليلة من ظهور الوباء، كان المغرب يعيش وضعا يدعو للقلق على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وقد تعالت الأصوات منبئةً بكون النموذج التنموي للمملكة لا يليق بتطلعاتها، بل وتساءل البعض عن حقيقة وُجودِه من الأساس.
استتبع ذلك نقاش عميق عُّيِّنت على إثره لجنةُ النموذج التنموي في 19 نونبر المنصرم من طرف أعلى سلطةٍ في البلاد. تتكون هذه اللجنة بالإضافة الى رئيسها من 35 عضوا على دِراية واسعة بالقضايا السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والبيئية. تهدف هذه اللجنة الى البحث في القضايا الشائكة بكثير من الجُرأة والموضوعية، فتلك هي التعليمات الملكية في انتظار نتائج ملموسة خلال صيف 2020. إن التركيز على الجرأة ليس وليد الصدفة، بل يفرضه كون المغاربة اليوم أصبحوا يعانون من أزمة ثقة في مؤسساتهم. ونقصد بالمؤسسات هنا ذلك المفهوم الذي صاغه دوغلاس نورث، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1993 والذي يُعتبر من أبرز المفكرين في نظرية المؤسسات. يقول نورث "إن المؤسسات هي تلك القيودُ التي صمّمها الانسان لكي تؤطر التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي". وبحسب النظرية آنفة الذكر، فإن درجة نجاعة هذه المؤسسات هي العامل الأساسي الذي يرتكز عليه صنع التطور والتنمية المنشودين.
جماعة العميان وأحوال الفيل
أجريت بالمغرب عدد من الدراسات لمقاربة مسألة الثقة في المؤسسات. وعلى قلتها وجنينيتها إلا أنها تظل دالة ومهمة. نذكر هنا على سبيل المثال، الدراسة التي قام بها المعهد المغربي لتحليل السياسات حول مؤشر الثقة وجودة المؤسسات. عرض المعهد النتائج الأولية للبحث في 03 دجنبر 2019 بالرباط، وقد ظهر من خلاله ما يلي: اجتماعيا، يثق المغاربة أولا وقبل كل شيء في أُسَرهم النووية الصغيرة؛ سياسيا، ليسوا راضين عن التوجه العام للبلاد، وعن الجهود المبذولة لحد الساعة من أجل محاربة الفساد، الشيء الذي جعلهم يوجهون ثقتهم أكثر لمنظمات المجتمع المدني. أما المُعطى الغريب و المُحَيِّر، والذي يدعو الى بعض التفاؤل في نفس الوقت، أن المغاربة لم يفقدوا الثقة في المؤسسات السيادية غير المنتخَبة كالشرطة والجيش، إذ تتمتع هاتان الفئتان بمعدلات ثقه تفوق بكثير المؤسسات المنتخَبة التي أعطاها المواطن صوته لِتُمثله، ونخص البرلمان بالذكر بالدرجة الأولى. والخلاصة هنا أن المغاربة بشكل عام يعانون أزمة ثقة ببعضهم البعض، بل وكذلك في مؤسسات عديدة ذات الأهمية البالغة.
في نفس النسق، أنتج الباحث والسوسيولوجي المغربي محمد الشرقاوي خلال العشرية الماضية تقريرا لفائدة المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، تساءل من خلاله عن دور الدولة ومختلف الفاعلين الاجتماعيين في نسج روابط متينة سياسيا واجتماعيا. ومن أبرز ما تطرق إليه في هذا التقرير عامل الثقة بشِقَّيه السياسي والاجتماعي في علاقتهما مع مفهوم العدالة الاقتصادية ومبدا تكافؤ الفرص. وقد اصدر نفس المعهد تقريراً آخر سنة 2012 يبين نتيجة مسحٍ وطني هدفه فهم الروابط الاجتماعية، خُصِّص في هذه الوثيقة حيزٌ مهم للرابط السياسي، ورابط المواطنة، كمحدِّدين أساسيين لجودة الروابط الأخرى.
اجتمعت الآراء من خلال كل هذه الدراسات، التي ذكرناها على سبيل المثال لا الحصر، على أن رابط الثقة في المؤسسات السياسية والاقتصادية أصبح هشًّا الى حدِّ دقِّ ناقوس الخطر، ذلك أن فقدان الثقة يهدم البنيان المجتمعي كما ينخر السُّوسُ الخشب. وهذا ما كان يجب أن نَعِيه قبل الوقوع في الجُحْر ومحاولة الخلاص منه، سيما وأن ثقافتَنا تَعُج بالعبر التي لم نَنفض الغبارَ عنها للأسف. فهل هناك أبلغُ من الحكاية الصوفية "جماعة العميان وأحوال الفيل" في رسم صورة لمجتمعٍ أشبه بمجتمعاتنا الآن؟ فقد كان للمتصوف حكيم سنائي الغزنوي مؤلف الحكاية باعٌ كبير، إذ أنه ألهم الكثيرين لعل أشهرهم جلال الدين الرومي.
تدور الأحداث في مدينة كان أهلها عميانا، مرَّ بهم ملكٌ فأحضر العسكر وضرب الخيام على مشارفها، كان ينوي المَبيت لليلة واحدة فقط، وكان للملك فيلٌ اتخذه من اجل الجاه والهيبة والصولة، ومن كثرة سماع العميان عن الفيل، رغبوا في اكتشافه. و إذ سطَّروا لأنفسهم هذا الهدف، تقدمت مجموعة منهم للقيام بالمهمة، فأسرع كل واحد منهم الى الفيل متعجِّلا وأخذ يلمسه بيده لكونه بلا بصر. وحينما عادوا للمدينة تجمع الآخرون حولهم، و بدأ الفريق بالسرد: قال ذلك الذي وقعت يده على الأذن إن الفيل سجاد كبير سميك، وذاك الذي وقعت يده على الخرطوم قال بل إنه افعى فارغه القلب، أما من لمس القوائم فقال إنه عمود مخروط، بينما كذَّبهم الأخير جميعا لأنه لمس الذيل، فبالنسبة له ليس الفيل سوى ريشةِ رسمٍ غريبة، تتقاذفها الريح. كلٌّ تشبث بِرأيه، وانقسم أهل المدينة بين مؤيد ومعارض، وانتهوا الى أنِ انفَضُّوا من حولهم لِكي لا تنشأ صراعاتٌ كبيرة، وكذلك لكونهم فقدوا الثقة في مرسوليهم جميعا. لم يصل العميان الى تحقيق هدفهم، وظلت حقيقة الفيل في علم الغيب.
خيارات المواجهة: الملاءمة واستثمار الفرص
قد تكون القصة مجازا من نسج الخيال، ولكن ما أشبه حال العميان بمواطنين فقدوا الثقة في المؤسسات التي تحدِّد مصيرهم. إن تخبُّط مؤسساتنا، وعدم وضوح خط السير الكفيل ببناء مجتمع يسير بخطىً ثابتة نحو التقدم والازدهار، يبقى السبب الرئيسي في تَكَوُّن صورة قاتمة لدى العديد من المواطنين وبعض المحللين. أما الآن، ونحن نقاوم أزمة منقطعة النظير، وجب علينا أن نؤمن و نأمل بأن النور يولد من رَحِم الظلام، فإمكانيه استدراك الخطأ، وتغيير هذه الصورة عن طريق تحسين أداء مؤسساتنا تبدو جدّ واردة. إن حسن تدبير الأزمة الحالية، سيدفع لامحالة بمؤشر الثقة نحو الأعلى، والعكس بالعكس صحيح ايضا، لأن اتخاذ القرارات الخاطئة سيجد الأرض خصبة لتوسيع الهوة الموجودة بين المجتمع والمؤسسات المؤطرة لتنظيمه. فصندوق التضامن لمواجهة كورونا مثلا هو فرصة من ذهب لإثبات الكفاءة والنجاعة وحسن التسيير، كلها أشياء يترقّبها المواطن المغربي، فهو اليوم متيقظ، يتتبع بكل اهتمام القرارات المتخذة ويُقيِّمها على ضوء تجاربه السابقة وانتظاراته المستقبلية، إنه يتطلع لرؤية الضوء في آخر النفق، فهل نحن نسير في المنحى الصحيح؟
نواجهُ جميعًا اليوم أزمة من نوعٍ جديدٍ غيرِ معهود، إنه مأزق لم نكن لنتوقعه، فنحن في بيوتنا نَقْبع وكأننا نخشى ميدوسا (Méduse). أصبح فيروس كورونا يترقبنا كما ترقب هذا الوحش الميثولوجي ذو الرأس المليءِ بالأفاعي كلَّ من دنا من المعبد، فيُحوِّله صنماً بلا روحٍ. وإذ نحن وسط هذا الزخم، توجب علينا استخلاص العِبر، فدوام الحال من المحال، والأجدر بنا أن نتقبل الواقع ونستغل الفرص لتقييم خياراتنا الخاصة والعامة، أفرادا، شعوبا وحكومات.