نسخة تجريبية

في ضيافة السيدة الحرة: منصات تعرض نتائج بحثها الميداني حول: النساء، الفضاء العام والحريات الفردية


احتضنت مدينة المضيق يوم الجمعة 07 نونبر 2025 لقاء علميا مفتوحا نظمته مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية بشراكة مع جمعية السيدة الحرة للمواطنة وتكافؤ الفرص، وقد خصص هذا اللقاء لتقديم ومناقشة التقرير البحثي حول: "النساء، الفضاء العام والحريات الفردية"، في سياق يسعى إلى إثراء النقاش السوسيولوجي والدينامية البحثية حول التحولات الاجتماعية الراهنة، وتعزيز التكامل بين الإنتاج المعرفي والممارسة المدنية.

تشكل هذه الفعالية حلقة جديدة في مسار تفكير جماعي تؤطره منصات، حيث تعمل على تجسير العلاقة بين البحث العلمي والمجتمع المدني، من خلال مقاربة ميدانية منفتحة على الخصوصيات الثقافية والديناميات المحلية. وقد جاء هذا اللقاء، الذي جمع باحثين وفاعلين من مجالات متعددة، للتداول والنقاش حول أشكال حضور النساء في الفضاء العام، بناء على عدد من المعطيات الميدانية التي أفرزتها الدراسة الكمية لمنصات.

عبد الرحمن الزكريتي: أبحاث منصات، نحو مقاربة سوسيولوجية للحريات الفردية في الفضاء العام

افتتح الأستاذ عبد الرحمن الزكريتي مداخلته بالحديث عن سياق إنجاز البحث الميداني حول موضوع النساء والفضاء العام والحريات الفردية، مبرزا أن هذا الموضوع، رغم حضوره الواسع في الخطابات الحقوقية والسياسية، كان في حاجة إلى مقاربة أكاديمية علمية تنصت للتحولات الاجتماعية وتفكك بنيتها من داخل الواقع المغربي.

وأشار الزكريتي إلى أن النقاشات الدائرة حول قضايا الجسد والحرية والسيادة على الجسد دفعت فريق البحث إلى صياغة أداة ميدانية دقيقة قادرة على التقاط تمثلات الأفراد ومواقفهم، حيث تم العمل بالاستمارة كوسيلة لجمع المعطيات، وتضمنت 73 سؤالا متنوعا ويغطي محاور متعددة. وقد اشتغل فريق الباحثين المنتمين إلى برنامج جيل على هذه الاستمارة في مختلف مناطق المغرب، الحضرية منها والقروية، رغم محدودية الإمكانات المتاحة.

وأكد المتحدث أن الفضاء العام يشكل مسرحا للتقاطعات والتحولات الاجتماعية، ومن خلال المقارنة بين الماضي والحاضر، عبر المبحوثون عن تغيرات واضحة في تمثلهم لمفهوم الحرية، باعتباره فضاء للرهانات الاجتماعية والرمزية. وأظهرت النتائج، أن المال والسلطة يظلان عاملين محددين في توسيع هامش الحرية، مما يجعل هذه الأخيرة نخبوية وطبقية في جزء كبير منها. وهو ما يبرز الحاجة إلى نقاش علمي متجدد حول مفهوم الحرية وتمثلاتها داخل المجتمع المغربي، معتبرا أن هذا بالضبط هو دور الباحث السوسيولوجي والذي يتمثل في مساءلة الإشكالات المرتبطة بالحريات الفردية وتجلياتها داخل البنى الاجتماعية.

بوشعيب مجدول: الجسد الأنثوي بين تمثلات اجتماعية محافظة ورقابة مستمرة

في معرض حديثه تناول بوشعيب مجدول موضوع الجسد باعتباره مدخلا لفهم طبيعة الوجود الإنساني ذاته، مبرزا أن الإنسان يتجسد في جزء كبير من كيانه من خلال جسده، وأن الجسد الأنثوي، على وجه الخصوص، يتجاوز كونه مجرد كيان بيولوجي إلى فضاء رمزي وثقافي وسياسي تتقاطع فيه المعايير والقيم والصراعات.

وانطلاقا من نتائج البحث الميداني، أوضح مجدول أن63  في المئة من المستجوبين يتفقون مع حرية المرأة في التصرف في جسدها داخل الفضاء الخاص، في حين ترى فئة أخرى أن هذه الحرية ينبغي أن تخضع للضبط حتى داخل البيت. أما في الفضاء العام، فقد أبدى54  في المئة رفضهم لهذه الحرية، وهو ما يكشف أن الفضاء ذاته يصبح محددا لمستوى الحرية أكثر من أي متغير آخر. وأضاف الباحث أن الوعي الفردي الجديد يتشكل أساسا في المدن والجامعات، بينما يظل الوعي الجمعي القروي أكثر تمسكا بالقيم والتقاليد المحافظة، حيث أن المدن المغربية تظهر انفتاحا أكبر تجاه حرية المرأة مقارنة بالمناطق القروية، وأن الشباب وذوي التعليم العالي أكثر تقبلا لهذه الحرية، ما يمنح الفاعلين المدنيين خريطة واضحة للمجالات التي تحتاج التدخل.

وفي حديثه عن رمزية الحجاب، أكد أن هذا اللباس لا ينظر إليه اجتماعيا كعنصر مظهري فحسب، بل كعلامة هوية وانتماء، ترتبط في المخيال الجمعي بمعايير الوقار والحشمة، لتغدو آلية لضبط حضور الجسد الأنثوي في الفضاء العام. وتشير نتائج البحث إلى أن نسبة كبيرة من المستجوبين يؤيدون ارتداء الحجاب في الفضاء العام باعتباره شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي للسلوك. أما بخصوص ظاهرة التحرش، فقد كشف مجدول أن أكثر من70  في المئة من المشاركين صرحوا بأنهم كانوا شاهدين على حالات تحرش في الفضاء العام، غير أن ثلثيهم لم يتدخلوا لمنعها، مما يدل على أن هذه الممارسة، رغم تجريمها قانونيً، لا تزال تحظى بقبول اجتماعي ضمني لدى بعض الفئات.

ميلودة الحراثي: الجسد الأنثوي بناء اجتماعي يجسد الصراع بين الحداثة والتقليد في الفضاء العام

قدمت ميلودة الحراثي قراءة سوسيولوجية في تمثلات الجسد داخل الفضاء العام المغربي، معتبرة أنه يشكل مجالا تتقاطع فيه أبعاد ثقافية وأخلاقية وقانونية، تتفاعل ضمن شبكة من العلاقات المتوترة بين الحرية الفردية والضوابط الاجتماعية. وأوضحت أن الجسد لا يمكن فهمه باعتباره معطى طبيعي وبيولوجي فحسب، بل هو بناء اجتماعي وثقافي يتشكل داخل منظومة القيم والمعايير السائدة، ما يجعل منه ساحة لإعادة إنتاج الرموز، وتمثلات السلطة، والفوارق الجندرية.

وانطلاقا من هذا التصور، أكدت المتدخلة أن الفضاء العام أصبح مجالا لإعادة صياغة الحدود بين ما هو خاص وما هو عام، إذ تمارس داخله أشكال متعددة من الرقابة الاجتماعية والهيمنة الرمزية على الجسد الأنثوي، وهو ما يؤدي إلى إعادة إنتاج الأدوار الجندرية وتقييد مساحات الحرية الفردية للنساء.

وترى الحراثي أن الفضاء العام تحول إلى ساحة رمزية للنقاش حول حرية الجسد وحدودها، حيث تتجسد هذه النقاشات في الممارسات اليومية: في طريقة اللباس، في الحركات داخل الشارع، وفي أشكال التعبير الجسدي المختلفة، ما يجعل الجسد نفسه لغة اجتماعية تعبر عن موازين القوة والمعايير الأخلاقية السائدة. وأضافت أن تمثلات المغاربة للجسد الحر لا تزال مشدودة إلى تقسيم صارم بين المجالين العام والخاص، وهو ما ينعكس بوضوح على موقع المرأة داخل الفضاء المشترك، إذ يظل الجسد الأنثوي أكثر المجالات عرضة للتأويل والرقابة، باعتباره رمزا لهوية الجماعة وموضوعا للصراع بين قيم الحداثة والتقليد.

نرجس العطار: الفضاء العام بين التحول الرمزي وهشاشة الولوج الآمن

في مداخلتها، أكدت نرجس العطار أن الفضاء العام ليس مجرد حيز مادي أو مكاني يمكن رصده تجريبيا، بل هو في جوهره منتج اجتماعي وثقافي تتقاطع داخله إشكالات السلطة والجندر والتمثلات الثقافية، مما يجعله فضاء يتشكل باستمرار عبر الممارسات والمعاني التي يسقطها عليه الأفراد والجماعات.

وأشارت العطار إلى أن المعطيات الميدانية التي أفرزتها دراسات منصات تعكس تحولا قيميا ملحوظا في تمثلات المجتمع المغربي تجاه مشاركة النساء في الفضاء العام، إذ بدأت هذه التمثلات تنزاح تدريجيا من منطق الوصاية الاجتماعية إلى منطق الحق والمواطنة، بما يعني أن هناك وعيا متناميا بحق النساء في الحضور والمشاركة الفاعلة في المجال العمومي. لكن هذا التحول الرمزي، تضيف المتدخلة، لا يخفي هشاشة واقعية ما تزال تطبع الفضاءات العامة، حيث تشير الأرقام إلى أن20  في المئة من المستجوبين يعتبرون الأماكن العامة غير آمنة، بينما80  في المئة من النساء هن الأكثر عرضة للتحرش. ويكشف هذا الواقع مفارقة لافتة بين القبول الرمزي لوجود النساء في الفضاء العام من جهة، وهشاشة أمنية من جهة أخرى.

وفي هذا الإطار، أوضحت العطار أن الهيمنة الذكورية لا تظهر فقط في السلوكيات أو التمثلات، بل تمتد إلى تصميم الفضاءات نفسها، إذ تقوم الهندسة المجالية في كثير من الأحيان على تراتبية رمزية تكرس نظاما تصنيفيا يضع النساء في موقع أدنى من الرجال من حيث حرية الحركة والإحساس بالأمان والانتماء إلى المجال المشترك.

وفاء فحصي: حضور النساء في الحراك الاجتماعي يعيد بناء المعنى داخل الفضاء العام

أبرزت وفاء فحصي أن مشاركة المرأة في الحراك الاجتماعي تشكل أحد المؤشرات البارزة على التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي على مستوى الوعي الجماعي وتمثلات الأدوار الجندرية. فالحركات الاجتماعية باتت فضاء يعكس تحول المرأة من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل، إذ أصبحت تساهم بفعالية في صياغة المطالب الجماعية والدفاع عن قيم المساواة والعدالة.

وأوضحت فحصي أن انخراط النساء في الحركات الاحتجاجية لم يأت بمعزل عن السياق، بل هو نتاج لتفاعل مجموعة من العوامل، أبرزها ارتفاع مستويات التعليم والوعي لدى النساء، إلى جانب تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت لهن فضاءات جديدة للتعبير، والتحولات الثقافية التي قلصت من سطوة النظام الأبوي التقليدي.

وأكدت أن حضور النساء في المجال الاحتجاجي لا يمثل مجرد انتقال مكاني من المجال الخاص إلى العام، بل هو تحول رمزي في بنية العلاقات الاجتماعية، يعيد توزيع القوة والمعنى داخل الفضاء العمومي، ويكشف عن إرادة نسائية جماعية في إعادة تعريف أدوار المرأة وموقعها في الفعل الاجتماعي والسياسي.

وأشارت فحصي إلى أن الحضور المادي للنساء، خاصة الشابات، خلال حراك جيل "زد"، يعكس تحولات اجتماعية عميقة، إذ لا يتعلق الأمر بمجرد وجود جسدي في ساحات الاحتجاج، بل بفعل واع يعيد رسم حدود الممكن والمسموح في علاقة المرأة بالمجال العام، ويعبر عن تحول في الوعي الجمعي تجاه أدوار النساء ومكانتهن في الحياة العامة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه اللقاء يمثل محطة جديدة في مسار انفتاح مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية على مختلف الفاعلين الأكاديميين والمدنيين، في إطار سعيها إلى تعزيز التكامل بين الإنتاج العلمي والعمل الميداني، وترسيخ حضور البحث السوسيولوجي في النقاش العمومي، بما يتيح نقل نتائج البحث العلمي من مستوى التحليل إلى فضاءات الفعل المدني.

وشكل اللقاء فرصة لعرض التقرير البحثي الذي أُنجز من طرف مركز منصات بمساهمة فعلية من خريجي برنامج "جيل فاطمة المرنيسي" في دورته 2024-2025. وقد اعتمدت الدراسة على بحث ميداني وطني شمل عينة متوازنة تضم 1584 مبحوثا ومبحوثة، في إطار مقاربة سوسيولوجية تتجاوز التفسيرات الاختزالية أو القطبية لمسألة النساء في الفضاء العام. حيث هدف البحث إلى دراسة وتحليل تمثلات المغاربة اتجاه ولوج النساء للفضاء العام، من خلال محاور تتعلق بـ الحريات الفردية، حرية الجسد، التوترات بين المعايير القانونية والدينية والاجتماعية، وآليات الحماية والمشاركة الجماعية.