نسخة تجريبية

العنف والحجرالصحي:جدلية كورونا والفقر


د.ليلى اللوماني
باحثة في الاقتصاد
يفسرالوظيفيون العنف بخلل في وظيفة من وظائف المؤسسات، ويفسره الماركسيون بعلاقات الهيمنة، فيما يرجعه أنصار المدرسة التفاعلية إلى المعنى الرمزي الذي يعطيه الفاعل لسلوكه اثناء علاقاته. مهما اختلفت الأطروحات والباراديغمات التفسيرية، يظل العنف ثابتا جوهريا رافق البشر كوظيفية حيوية، كما يقول البيولوجيون. لكن كيف نفهم ارتفاع وتيرته في اتجاه النساء بالخصوص في زمن الأزمات، وفي زمن الحجر الصحي على وجه الخصوص؟ تنطلق أجابتنا عن هذا السؤال من تصور فرضي نعتبر من خلاله أن الحجر الصحي ليس مسؤولا عن ارتفاع العنف، إن هو حصل فعلا، بل إن هذه الظرفية الطارئة أدت فقط إلى كشفه أكثر ووفرت له ظروفا حفزت وتيرته.  
لا نتوفر رسميا على أي معطيات حول استفحال ظاهرة العنف داخل الأسر المغربية في علاقة بفترة الحجر الصحي. لكن تنظيمات المجتمع المدني تدق ناقوس الخطر. وفي هذا الصدد صرحت رئيسة الجمعية المغربية "أيادي" أثناء استضافتها بإحدى القنوات التلفزيونية المغربية، أن نسبة الاتصالات الواردة عليها قد ارتفعت بنسبة 30٪ كما صرحت أن النساء ضحايا العنف يعشن واقعا مزريا بين مطرقة الهشاشة وسندان الحجر الصحي. وبالإضافة إلى ذلك، تعج الرسائل ومقاطع الفيديوهات التي يتم تداولها عبر شبكات التواصل الاجتماعي بالعديد من مظاهر العنف التي تبرز جزءا من الهشاشة التي تعيشها أوساط واسعة من الأسر المغربية.
وفي انتظار المعطيات الرسمية بخصوص الظاهرة، يمكن القول بأن فترة الحجر الصحي يمكن، من الناحية النظرية، أن تشكل مناسبة لظهور اختلالات كانت كامنة في الزمن العادي. وأن فترة الحجر الصحي يمكن أن تكثف من حجم الاختلالات الوظيفية للأسرة المغربية.  يجد تفسيرنا هذا شرعيته في أن الأسرة هي نظام اجتماعي له بناؤه وعلاقاته المتبادلة وحدوده التي تحفظ له توازنه، وبالتالي فإن توازن الأسرة يمكن أن يصيبه الخلل نتيجة اضطراب البناء والعلاقات والحدود التي تنظمه خلال فترة الحجر الصحي، وبهذا يمكن تفسير العنف في هذه الظروف بوجود خلل ما في هذه الأجهزة المكونة للنظام.  فإذا تغيرت القواعد والقوانين والمسؤوليات التي تعمل على توازن النظام الأسري، فإن من المتوقع أن تظهر في الأسرة علاقات سلبية على شاكلة العنف.
بالرغم من وجاهة هذا التفسير، لكن هل يمكن الاطمئنان له وحيدا من بين كل المتغيرات الأخرى؟ بالرجوع الى النظرية الوظيفية دائما فإن ظاهرة العنف ترتبط بالقصور الاجتماعي وما يحمله من مكانيزمات ومؤثرات قاهرة تجعل الفرد أو الجماعة غير قادرة على التلاؤم مع المحيط. وترى هذه المدرسة أن العنف هو سلوك يمارسه الفرد نظرا للوضعية المتواجد فيها والمتمثلة في عدم التلاؤم مع الوضع الاقتصادي للمجتمع، لذلك فعملية القصور الاجتماعي تجعل الفرد يشعر بالتهميش مما يولد لديه استعدادا للانحراف والاستبعاد من الحياة الاجتماعية. يتوافق هذا الطرح مع الواقع الاقتصادي المزري للأوساط الاجتماعية التي يرتفع بداخلها معدل العنف ضد المرأة، حسب المعطيات التي توردها على الأقل وسائل الإعلام.
إن الملاحظة العيانية لواقع الجريمة مثلا في الزمن العادي، تثبت أن أكثر معدلات العنف والجريمة تسجل بالأوساط الهشة والفقيرة وبالأخص مناطق السكن الاقتصادي ودورالصفيح حيث يتخبط سكان هذه المناطق بين ضغوطات الهشاشة الاجتماعية والفقر مما يؤجج السلوكات العدوانية.  ومن هنا تنشأ فرضيتنا التي نعتبر فيها أن الحجر الصحي ليس مسؤولا عن ارتفاع العنف ضد النساء وإنما شكل العامل الذي فاقم هذا الوضع، خصوصا وأن معظم الشرائح المغربية الفقيرة القاطنة بهذه الأحياء تعمل بشكل مياوم وغالبا بقطاعات غير مهيكلة وغير مصرح بها.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن ننفي إمكانية ارتباط العنف بالمجال الحيوي للذات، كما نظر له إيرفين غوفمان، حينما أكد أن لكل مكان طقوسه يحاول فيها الفرد حماية مجاله والدفاع عنه من كل اقتحام.  إنّ الضغوط المتولدة، عن حالة الحجر الصحي، قد تؤدي إلى زيادة العنف من خلال ما تحدثه من آثار نفسية أو سلوكية، ويتم ذلك وفقا لمستوى استثارة الشخص والإحباط الناجم عن هذه الضغوط. ويمكن للمرأة أن تكون "هدفا سهلا" للعنف، في هذه الفترة خاصة بالمساحات الضيقة للسكن الاقتصادي بالمغرب والتي لا تتجاوز مساحتها 54 مترا مربعا  حيث لا يمكن إلا أن تحد من المساحة الشخصية للأفراد خصوصا إذا ما رافق ذلك ارتفاع في عدد أفراد الأسرة. لقد وجدت هذه الأسر نفسها حبيسة الفقر والحاجة مما يفسر جزئيا حالة الغليان والعنف الذي يمكن ملاحظته بهذه الأوساط.
إن الضغط الاقتصادي المرتفع الذي يعاني منه الرجل خصوصا خلال هذه الفترة يعزز شعوره بالعجز والنقص أمام متطلبات الحياة ومسؤولياتها وهو ما يجعل العنف داخل الأسرة خصوصا اتجاه المرأة أمرا قد يكون فيه نوع من التفريغ والتعويض. يتعزز طرحنا هذا من خلال إحصائيات سنة 2014، حيث أن 60٪  من الأسر التي استفادت من السكن الاقتصادي في إطار التعويض عن السكن الصفيحي يتعدى عدد أطفالها الرقم أربعة وهو ما يشير إلى  تكدس أفراد الأسرة داخل وحدات سكنية ضيقة.
 هذا التفسير السوسويواقتصادي، يمكن أن تعززه الممارسة الميدانية وما نلاحظه في الأحزمة الفقيرة. في هذه الأحزمة تقيم أسر في حجرة واحدة، ويستعملون دورات مياه مشتركة في مناطق الفقر وأحزمة الهشاشة، حيث أغلبية القاطنين من  الفقراء والوافدين من القرى والأرياف . إن الآثار المترتبة عن هذا التكدس، قد تزداد  حدة خلال الحجر الصحي لأنّ الزمن المنزلي سيصير زمنا مفروضا. في حين أن الزمن العادي كان يمنح للرجل قضاء الوقت الأكبر خارج البيت، ويتوجه الأطفال نحو المدارس، وقد تخرج بعض النساء للعمل أيضا. وبالتالي فإن الساعات التي تقضيها الأسرة مجتمعة تتقلص وتقلل من تأثير المساحة الضيقة للسكن على سلوكات ساكنيها  كما تقلص من زمن  الفراغ والصراع.
هذا الطرح يجد في دراسات الباحث جيمس جيلجان، في كتابه"العنف:وباؤنا القاتل"، بعض العناصر المفسرة.  إن السبب الرئيسي لنشوء ظاهرة العنف، حسب هذا الباحث، هو الصراع والفراغ، حيث أن العنف ببساطة يعد نتيجة للجدل والاختلاف في الرأي بحدة، فإذا تم تجنب هذا الجدل وشغل الفراغ، سيتم بالتالي تجنب العنف، فالأشخاص يتجهون إلى العنف كوسيلة لدفع الخزي أو الشعور بالذل والإهانة. كما أن استخدام العنف غالبًا ما يكون بمثابة مصدر فخر ودفاع عن الكرامة خاصًة بين الرجال المغاربة الذين يعتقدون في الغالب أن العنف هو معنى الرجولة ودليلها. وإذا ما لاحظنا نقاط تمركز العنف بصفة عامة فإننا نجد أن المناطق ذات الكثافة السكانية العالية بالمغرب تسجل أعلى المعدلات. وبالمقابل، فقد لوحظ انخفاض معدل العنف الاسري داخل الاسر التي تقطن بالأحياء المتوسطة و الراقية...فهل كلما توفرت للفرد شروط العيش الكريم داخل فضاءات مريحة نفسيا وتسمح بنوع من الرفاهية، يتسم سلوكه بالتسامح.؟
لا يمكننا في الوقت الراهن الحسم في الإجابة حيث تختلف تفسيرات العنف بصفة عامة، وضد النساء وفي زمن الحجر الصحي خاصة. إن القدرة فقط على تلمس الظاهرة لا يزال يحتاج إلى دراسات ميدانية ذلك أن العنف ظاهرة مركبة متعددة التغييرات، ولا يمكن تفسيرها بمتغير أو عامل واحد فقط.  والمؤكد أن هناك مجموعة من العوامل تتفاعل، تتداخل وتترابط وتؤثر في بعضها البعض. ولا شك أن النمط الثقافي السائد والتمثل الدوني للمرأة قد يكون عامل حفز للعنف ضدها خلال فترة الحجر الصحي في إطار علاقات الهيمنة السائدة. وبعد كل هذا وذاك لا يزال أمام العلوم الإنسانية مجالات شاسعة للبحث من أجل القدرة على تفكيك ظاهرة من قبيل العنف ضد النساء، وفي فترة الحجر الصحي. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون !