نسخة تجريبية

مشواط في حوار مع الأحداث المغربية حول الشباب و الدين والهوية


 أجرى الصحفي بجريدة الأحداث المغربية محمد عارف حوارا مع عزيز مشواط، أستاذ علم الاجتماع ومدير مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية. وتطرق الحوار، الذي أجري في وقت سابق، إلى الدور الذي يلعبه الدين في حياة الشباب المغربي عموما وفي تحديد تمثلاته وقراراته وعلاقاته الاجتماعية. وفي هذا السياق اعتبر مشواط أن الدين يفرض نفسه كقيمية مهيكلة للنسق القيمي للفئة المدروسة، بل إن الحضور المكثف للدين يترافق في نفس الوقت مع رغبة قوية في تحقيق الذات، والاستفادة من الاختيارات الفردية. وتعميما للإفادة ، نعيد نشر الحوار كاملا.


 

ماهي قراءتكم السوسيولوجية للدور الذي يلعبه الدين في حياة الشباب المغربي عموما في تحديد تمثلاته وقراراته وعلاقاته الاجتماعية؟

أولا هناك صعوبة نظرية في تحديد المفهوم نظرا لأن الشباب كمفهوم يتجاذبه على الأقل توجهان. الأول يعتبر الشباب كتلة منسجمة ومتناغمة يمكن تأطيرها وتحديدها من خلال المعطى البيولوجي الذي هو السن، والثانية تعتبر المفهوم مجرد محاولة للالتفاف على التفاوتات القائمة على مستوى الانتماء السوسيواقتصادي ويجسد هذا التوجه القولة الشهيرة لبورديو: الشباب مجرد كلمة.  ونفس الأمر ينطبق على مفهوم الدين حيث تتجاور فيه الاعتقادات والممارسات. لكن دون الدخول في الملابسات المفاهيمية على المستوى النظري، العينة التي اشتغلت عليها هي عينة الشباب المتمدرس المتراوحة أعمارها بين 15 و24 سنة. لم يكن هناك جديد على مستوى حضور الدين في النسق القيمي لهؤلاء الشباب حيث أن السؤال الكلاسيكي الذي نطرحه في هذا النوع من الدراسات والمرتبط بـ"الأشياء الأكثر أهمية في حياتك؟، يفيد أن الدين يأتي في المرتبة الأولى قبل الأسرة والعمل والمال وغيرها. لكن الجديد هو المعنى الذي يعطيه الشباب للدين. وهنا يحضرالدين كقيمة أداتية، إن المعنى الذي يعطيه الشباب للدين تطغى عليه نوع من العقلانية الفردانية بالمعنى السوسيولوجي أي من جهة قدرته على حل مشاكل الشباب وإعطائهم الشرعية لممارسات تبدو فردانية من قبيل الحرية، الاستقلالية، الحب، المغامرة. هذه القيم التي يعلي الشباب من أهميتها، وبالرغم من كونها في المنظور الكلاسيكي تمتح من حقل اشتغال يمكن ان نصفه بـ"الحداثي" إلا ان تبريرها من قبل الشباب وإعطائها شرعيتها يمتح من الحقل الديني. وهكذا فإن الحضور المكثف للدين في نسق قيم الشباب واعتباره الشئ الاكثر أهمية في الحياة يخفي الشئ الكثير من الاعتمالات الداخلية المطبوعة بتعدد مستويات التشكيلات القيمية التي ينخرط فيها الشباب نظرا لتعدد الاختيارات وتشتت النماذج التي لم تعد قادرة على استيعابهم. والأهم من كل هذا هو أنه من داخل النسق الديني تنبثق قيم فردانية، تعلي من دور الفرد وإمكانياته الاعتبارية بعيدا عن النماذج الكلاسيكية والنمطية التي تحاول أن تجعل الدين في قوالب جاهزة ونمطية من خلال نصوص وفتاوي ذات مضمون جاف وجامد سواء فيما يتعلق بالتدين الرسمي أو التدين الحركي.  فالشباب يقدمون قراءات للدين فيها تعبير من مستوى عال عن الفردانية وسيادة قيم استهلاكية مرتبطة بالتحولات الاقتصادية التي تركز على الترفيه والاستمتاع الشخصي، ونزوع أقل نحو الإنجاب، ورغبة في الزواج حسب الرغبات الشخصية. يبدو الدين في منظور شباب العينة المدروسة ضروريا وأساسيا كمكون هوياتي من جهة، ومن جهة أخرى كمكون من مكونات شرعنة السلوكات والممارسات التي تتوافق والمصلحة العقلانية للشاب بما يتوافق ومرحلته العمرية المتسمة بالعنفوان، الرغبة في التغيير، المغامرة في ظل علاقات اجتماعية أكثر عقلانية ومصلحية ومنفعية.                                                                                                  

من خلال أبحاثكم الميدانية في هذا الإطار، ماهي أهم القيم التي تعتبرونها المتحكم الرئيسي في حياة الشباب المغربي وتشكل لديهم أولوية؟

إن الدين يفرض نفسه كقيمية مهيكلة للنسق القيمي للفئة المدروسة، بل إن الحضور المكثف للدين يترافق في نفس الوقت مع رغبة قوية في تحقيق الذات، والاستفادة من الاختيارات الفردية. إن ارتباط الشباب بالقيم الدينية لم يمنعهم من إعطاء الأهمية الكبرى للاختيارات الفردانية، للمشاعر، للعواطف. فمثلا ما هو المعيار المهم في نظرك لاختيار الشريك مع إعطاء إمكانية الاختيار بين درجة تدينه، الحب، المال ، النسب. سنجد ان نسبة 68% من الشباب اختاروا معيار الحب بكل ما يحمله ذلك من معنى على مستوى الاختيارات الفردية. وحول سؤال: كيف تصف نفسك: حداثي ، تقليدي، أو ما بينهما ؟ عبر أكثر من  70% عن كونهم حداثيون، بالرغم من اعتبارهم الدين مركز نسقهم القيمي. بل إن الدين نفسه مستعمل من قبل الشباب في عملية التفاوض من أجل تحقيق الذات، حيث يلجأون إليه باستمرار من أجل ضمان تحقيق الذات، وتبرير بعض الهوامش من الحرية، وضمان وضع اجتماعي متميز حيث يتم تأويل الدين حسب اعتبارات ذاتية وفردية بعيدا عن الإسلام المعياري. وهكذا، تشمل عملية التأويل كل مناحي الحياة بدءا من الزواج، العلاقة مع الشأن العام، عدد الأطفال المثالي، محددات اختيار الشريك، تنظيم الحمل وغيرها. ومن ثمة، يفضل الشباب نوعا من التوافق والاستمرارية عوض القطيعة. وبذلك، فهم يوجدون في موقع من التجاذب بين الرغبة في التجديد عبر الاستعمال المكثف للتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة والرغبة في الاختيار الحر للشريك تبعا لخصائص تزاوج بين الدين)  الشريك المفترض يجب أن يكون متدينا (والحب) باعتباره اختيارا فرديا وواعيا (. إنهم يقدسون الماضي، ويقدسون الحرية والفردنة، والاختيارات الاستهلاكية، والاستعمال المكثف للجديد في التكنولوجيا واللباس والعلم والتقنية. إنهم يتبنون ويبحثون عن نوع من الوسطية تمكنهم من الاستفادة من الحياة العصرية دون فقدان ما يعتبرونه هوية أصلية. ويشكل الماضي في هذا السياق ملجأ آمنا للحلول السهلة كلما واجهت الشاب صعوبات التموقع. بل إن المستقبل في بعض الحالات يصبح أرضية خصبة للأسطرة حيث أنه سيكون أفضل إذا كان بالإمكان ربطه بالماضي المجيد. إن الانتقال بين المستويين لا يتم بنوع من القطيعة بل يتم انطلاقا من الاستمرارية. هذه الاستمرارية تجعلهم على الأقل من الناحية المظرية، أوفياء للنسق الذي أنتجهم. ويتضح هذا التجاذب الحاد بين الوفاء للنسق الأصلي حيث هيمنة الدين والنسق الحداثي المطبوع بالرغبة في تحقيق الحرية بشكل جلي لدى الشابات. إنهن الأكثر تعبيرا عن هذا التجاذب من خلال رغبة أكيدة في الانخراط في البحث عن الحرية الفردية، الاستقلالية، والارتباط الوثيق بالتقليد.

كلما تقدم سن الشباب زاد ميولهم نحو تبني قيم المجتمع، وكلما ارتفع المستوى التعليمي للشباب كلما اعتبروا أنفسهم غير حداثيين وغير تقليدي بماذا تفسرون هذه من المفارقات؟

لا بد من الإشارة إلى أن السن والمستوى الدراسي متلازمان، حيث كلما ارتفع سن الشباب كلما تقدموا في مستواهم الدراسي. ومع ذلك، تبقى هذه الخلاصات جزئية وتحتاج إلى أبحاث ودراسات أخرى من أجل التثبت والتحقق من صدقيتها من خلال إدخال متغيرات أخرى غير السن والمستوى الدراسي. لكن الفرضية التي أقدمها هنا لتفسير الأمر تعتمد على المعنى الذي يعطيه الشباب لسلوكاتهم. يوجد الشباب أمام تعدد أدوات التنشئة الاجتماعية. فعلى امتداد تطوره يواجه الفرد عددا من التأثيرات ومقترحات الأفكار والسلوكات، منسجمة فيما بينها في بعض الحالات ومتناقضة في أخرى. وهو يوجد بصفة مستمرة أمام عدد لا متناه من الاختيارات التي تتعدد وتتنوع حسب معياري الزمان والمكان والسياق.

الفاعل هنا في حالتنا، وهو الشاب، يختار في لحظة معينة تثبيت عناصر من مقترحات التنشئة فتصبح جزءا من شخصيته وفي لحظات أخرى، يقوم بالعملية العكسية وهي إلغاء ما تم تثبيته، ويمكن أن يلغي تثبيته مجددا. ويمكنه أن يتوقف عن الإيمان بشئ ويؤمن به مجددا، كما يستطيع ان يدمج عددا من القيم والممارسات: الاعتقاد والمساواة بين الرجل والمرأة في العمل، ولكن دون الاعتقاد في المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث. يمكن للفرد أن يعتقد ويمارس، ويمكن أن يعتقد دون أن يمارس الشعائر والطقوس ويمكن أن يمارس ويعتقد بطريقة فردانية.

مع التقدم في السن، يتجه الشباب إلى الانخراط أكثر في شبكات اجتماعية أكثر استقرارا ضمانا لمصالحه ولمواجهة الأعباء المتزايدة للحياة. وبفعل التعود، وبفعل صعوبة تحقيق الذات والتموقع الاجتماعي السليم كذات فردية مستقلة، وأمام صعوبات الشغل، ومشاكل البطالة، وانسداد الآفاق، يجد الفاعل ذاته مضطرا إلى تبني قيم تمكنه من تحقيق أهدافه بالطرق الأكثر اقتصادا للجهد والطاقة.  فحينما يقوم الشاب بالخروج إلى عالم الشغل أو يرغب في تكوين أسرة وحينما يتوجه إلى التموقع الاجتماعي المتسم بالاستقرار، يتجه أكثر نحو ما يساعده على تحقيق أهدافه ومراميه بطريقة عقلانية ترمي إلى الرفع من المردودية وتقليص الكلفة.  وفي طور التحولات الاجتماعية المتسارعة التي يعرفها المغرب، فإن التشكيلات القيمية الأكثر مساعدة على الاستقرار توجد ضمن شبكات اجتماعية تقليدية غالبا ما يوجد فاعلون اجتماعيون وحتى سياسيون، ينظمونها ويستغلونها. وهكذا يجد الشاب نفسه منخرطا فيما يحقق أهدافه وتتراجع قيم التجاوز وقيم تحقيق الذات بعيدا عن الجماعة.  ويصبح من العقلانية بالنسبة له، أن يمتح من معين قيم الاستمرارية) التقاليد، المحافظة، الأمان (، فيما تتراجع إلى الخلف قيم الانفتاح والرغبة في التغيير. هذا التأويل يمكن أن نجد له أيضا سندا آخر حيث أنه من المفترض أن التكوين والمدرسة يساعدان في الانفتاح وفي التوفر على مرونة نابعة مما توفره المدرسة من قدرة على فهم الواقع بطرق عقلانية. غير أن هذا الفهم لا يستقيم هنا، حيث أثبتت الأبحاث التي أجريناها في هذا الصدد، بأنه كلما ارتفع المستوى التعليمي للشباب كلما اتجهوا نحوا قيم تقدس الماضي، وهنا لابد من الإشارة إلى سؤال مركزي وهام حول طبيعة المضامين الدراسية ومحتوياتها، دون إمكانية اعتبار هذا العنصر الوحيد المسؤول عن هذا التوجه أو ذاك.

 تعتزمون إصدار مؤلف يتناول عددا من انشغالات وقضايا الشباب في العاصمة البيضاء ماهي أهم خطوطه العريضة وكذا خلاصاته؟

الهاجس الذي يقود الكتاب، الذي قدم له البرفيسور جمال خليل، هو في الأصل أطروحة دكتوراه وهاجسه الأساسي إيجاد نموذج تفسيري منسجم ومنطقي للتعدد والتشتت الذي يطبع قيم شباب الدار البيضاء. هذه الفكرة تقتضي أولا أن فهم قيم فئة معينة تقتضي فهم التوجهات القيمية الكبرى السائدة داخل المجتمع الأصلي. المنهجية المتبعة بقدر ما هي كلاسيكية بقدر ما فيها بعض التجديد. نقوم باستجواب عدد كبير من الشباب وبعد ذلك يتم التعمق في نفس الأسئلة مع عدد محدود عن طريق الأدوات الكيفية. هذه المنهجية مكنتني من اقتراح تصنيف نظري جديد، بعيدا عن التصنيفات الكلاسيكية التي تميز بين قيم تقليدية، و قيم عصرية، وقيم ترميقية، تصنيف يميز بين الشباب من حيث نسق قيمهم على أساس الشمولية أو الفردانية وأساس آخر هو المصدر المرجعي لقيمهم، هل هو الماضي أم الحاضر والمستقبل.

إحدى الخلاصات التي ينتهي إليها الكتاب هو أن الربط الميكانيكي بين الفردنة ومسلسل التحرر من الدين لا يستقيم، في حالة دراستنا على الأقل. الرواد المؤسسون للسوسيولوجيا (دوركايم، فيبر، ماركس وغيرهم) توقعوا أنه كلما اتجهت المجتمعات الانسانية نحو التحديث المتسارع للبنيات والهياكل والأنساق الاقتصادية والصناعية والمادية، كارتفاع حالة التصنيع، وانتشار التمدين، والولوج للمعرفة، وخروج المرأة للعمل، وانخفاض الولادات…، إلا وكانت نتيجة هذه التحولات، تراجعا للتدين، وبروزا للفردانية، واختفاء للمقدس، وتشظيا في المرجعيات. هذا الفهم لا يمكن أن ينطبق على نتائج الدراسة. 

من خلال الكتاب، يتبن مثلا، أن الحضور المكثف للدين في النسق القيمي للشباب يخفي مسلسلات أخرى وديناميكات متعددة للتأويل وإعادة تأويل الممارسة الدينية بشكل مختلف وبشكل غير جاف وغير جامد. بمعنى أننا من داخل الدين نحن بإزاء سيرورات فردية لفهم الدين وممارسته. يتضح ذلك بالخصوص من خلال الأهمية الكبيرة المعطاة للدين على مستوى التمثلات لكن المعنى الذي يعطى للدين، وهو الأهم يكشف وجود" أديان" وليس دين واحد لدى الشباب. ويؤكد الكتاب أن الشباب يتموقع على خط متشعب من الاختيارات دون أن يستطيعوا الحسم لصالح هذا الاختيار أو ذاك ولذلك يحتفظون بالمستويين معا. وهكذا يقومون بتجميع رؤيتين مختلفتين للعالم. من أجل أن يصلوا إلى مستوى تجميع هذين الرؤيتين، كان لابد أن تكون هذين الرؤيتين متضمنتين خلال مسار التنشئة الاجتماعية. ويعود ذلك، حسب المعطيات التي يعتمدها الكتاب، إلى أن الاعتقادات الدينية توجد في العديد من المؤسسات، في المدرسة، في الإعلام، في الشارع وتروج في الفضاء العام بشكل متواتر ويومي. أما العلم فيوجد نظريا في المدرسة وفي فضاءات العمل المعقلنة والتي تفرضها ضرورات التحديث وتوجد على الانترنيت بشكل متسارع وجذاب. إن فضاءات تنزيل المنتجات الدينية تتفوق من حيث العدد على فضاءات تنزيل المنتجات العلمية. ومع ذلك، نجد ان لدى الشباب توجها متماثلا فيما يخص أهمية كل من العلم والدين لحل مشاكل المجتمع.

ولعل الخلاصة الأساسية للكتاب، هي أن الهوية الفردية صارت لدى الشباب بناء أكثر منها موروثا.هذه الحقيقة تجعلنا، كباحثين في السوسيولوجيا، أمام طريق طويل لتطوير أدوات تحليل جديدة من أجل فهم تذبذبات قيم الأفراد وكيف يستدمجون معتقدات ويتصرفون وفق ممارسات متفاوتة.