نسخة تجريبية

الشعبوية كتهديد للحركات الاجتماعية



د.مصطفى راجعي

أستاذ علم الاجتماع، جامعة مستغانم، الجزائر


الشعبوية هي كلمة ذات استخدام واسع في الخطاب السياسي من قبل الجميع سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة أوفي الحركات الاحتجاجية وهي كلمة يستخدمها الجميع لوصف الجميع والكل  منها برئ والكل بها متهم. ولكن رغم استخدامها بشكل واسع إلا أن أنها كلمة تمتاز بالغموض في الأذهان. وسأحاول في هذا المقال تقديم لأول مرة شرح وتحليل النموذج الشعبوي  ثم  أقوم بتطبيق  هذا المفهوم  على  ظاهرة  الحركات الاجتماعية الاحتجاجية  عموما و التي سأبين  أنها  نتاج  انتشار الإيدلوجية الشعبوية أكثر من أي شيء آخر. وهذه الأيديولوجية الشعبوية هي أكبر تهديد لكل الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في الحاضر والمستقبل.

 يعرف  المختصون الشعبوية كإيدلوجية فقيرة نظريا تقوم على فكرة بسيطة واحدة هي" فكرة شعب فاضل يتعرض للخيانة من قبل نخبة فاسدة. ولا يمكن محو هذه الخيانة إلا من  خلال  التعبير السياسي المباشر لشعب منتقم دون الخضوع للقيود المؤسساتية. وهذه الفكرة السياسية البسيطة لا يقوم عليها أي برنامج سياسي محدد لتطبيقها ولهذا نجد جميع التيارات المتطرفة من  أقصى اليمين الى اقصى اليسار تعتمد كلها على هذه الإيديولوجية الفقيرة نظريا.

ويمكن تفكيك الايدلوجية الشعبوية الى ثلاث أفكار أساسية . أولا، فكرة وجود شعب منسجم. ثانيا، فكرة أن هذا الشعب المنسجم يمارس إرادته مباشرة دون وساطة مؤسساتية وثالثا، إن النخب الفاسدة هي مصدر معاناة الشعب والعائق أمام تحقيق إرادته . ( جيرالد برونار Gerald Bronner ،2021).

وهذه الفكرة  الأساسية للشعبوية عن شعب فاضل خانته نخبة فاسدة؛ نجد لها تطبيقات وطنية   لدينا من خلال الفكرة المنتشرة القائلة أن"الشعوب العربية  ضحية خيانة عصابة تحكمها منذ الاستقلال". وكثرة استخدام كلمة العصابة المجرمة والشعب الضحية في الحركات الاحتجاجية  هي أكبر مؤشر يدل على انتشار قوي للشعبوية في خطابات الحركات الاجتماعية.

اتهام النخب بخيانة الشعب والفساد هي اتهامات متكررة لدى الشعبويين ضد النخب في كل البلدان. والدليل ظهر مع أزمة كوفيد19 حيث هاجم القادة الشعبويون النخب العلمية والطبية، وشككوا في راي العلماء حول الكوفيد 19. وكانت خرجة الرئيس ترامب في 20 ديسمبر 2020 عن الكولورفيل كعقار فعال ضد الكوفيد في تحدي لرأي كل الخبراء والباحثين في العالم؛ مثالا واضحا عن نزعة مغازلة" الشعب" مباشرة دون الرجوع الى العلماء والأطباء في الموضوع الذين اتهمهم أنهم عصابة لا تعمل لصالح " الشعب". وكان البروفسور الفرنسي راوول هو من خرج للناس عبر الفيسبوك والتويتر ليعلن ل'الشعب" مباشرة أنه اكتشف الدواء ضد الكوفيد 19 متجاهلا رأي النخبة العلمية في فرنسا والعالم وعندما قاطعته وسائل الاعلام الكلاسيكية لأسباب مهنية وأخلاقية اتهمها أنها جزء من العصابة الحاكمة في البلد.

ولقد سار الكثير من القادة السياسيين اليمينين في إيطاليا والبرازيل في هذا التوجه الشعبوي الديماغوجي لمغازلة "الشعب" بان الكلوروفيل هو عقار فعال مشككين في النخب الطبية والإعلامية التي تجاهلت الكولوروفيل، الذي اكتشف البروفسور راوول وحده دون غيره، فعاليته العلاجية دون الخضوع للبروتوكول العلمي المعروف، للتأكد من فعالية الأدوية وسلامتها.

وشهدت المنطقة العربية  خلال ازمة كوفييد 19 ظهور الخطاب التشكيكي في خطاب النخبة العلمية الطبية  حول  الفيروس ولاحظنا كيف انتشرت نظرية المؤامرة  التي  تقول أن السلطة هي من جلبت الفيروس من الخارج عبر فتح الحدود بهدف القضاء على  كل حركة احتجاجية مما يؤكد أن التوجه الشعبوي قوي داخل الحركات الاجتماعية في المنطقة العربية .

 توجه الشعبويين  لمخاطبة  "الشعب" مباشرة من خلال شبكات التويتر والفيسبوك مثلا دون المرور عبر القنوات الكلاسيكية كالتلفزيون والإذاعة هو استراتيجية متبعة من قبل جميع الشعبويين. وهي استراتيجية نزع الوسطاء لأن النخب الإعلامية تعتبر بالنسبة لهم  جزء من العصابة الفاسدة الخائنة للشعب. و المثال الأقرب لنا هو ترامب الذي كان يتواصل مع الشعب عبر تويتر حيث بلغ عدد متابعيه 84 مليون مشترك في حسابه وكان يغرد بمعدل 20 تغريدة في اليوم. و نفس السلوك الاتصالي كان لدى الإيطالي  الشعبوي زعيم رابطة الشمال الذي قال أن لوحته الإلكترونية أصبحت امتداد لأصابعه من شدة تواصله المستمر مع متابعيه  .

والتوجه الذي لاحظناه عند القادة المؤثرين في الحركات الاجتماعية في المنطقة المغاربية  نحو اتهام  القنوات الإعلامية أنها قنوات العصابة واستخدام العنف ضد الصحفيين ومنعهم من التغطية هو مؤشر يدل على التوجه الشعبوي للحركات الاجتماعية عندنا ، وهو حاضر في كل الحركات الشعبوية في العالم .

 يستخدم  الشعبويون  جميعا الديماغوجيا المعرفية للتأثير في الجمهور كما أسماها عالم الاجتماع الفرنسي جيرالد برونار Gerald Bronner   في كتابه الأخير الصادر في يناير  2021 بعنوان L’apocalypse cognitive  . والديماغوجيا المعرفية التي يعتمدها الشعبويون  هي  سياسة تلامس العقول وتحاول إقناعها بأفكار ونظريات خاطئة أصلا.  والنظرية الأساسية التي يستعملونها هي نظرية المؤامرة . تقوم هذه النظرية على فكرة تخيل جماعة خفية ذات قدرات غير محدودة يمكن تفسير كل الأحداث نتيجة عملها. وفي الخطاب الشعبوي في الغرب يسمونها النخبة والدولة العميقة أوالحكومة الخفية. ومع الحركات الاجتماعية، ظهرت الكثير من الكلمات التي تدل على الاعتقاد بنظرية المؤامرة . ومؤخرا ظهرت عبارة "عودة دولة المخابرات " وهي إحدى العبارات التي تدل على الانتشار الواسع لنظرية المؤامرة في الحراك الجزائري مثلا.

الديماغوجيا المعرفية هي العملية الفكرية المثالية التي تقود الفرد من حالة الإحباط الى الارتماء في أحضان الشعبوية. وهي تتغذى بحجج واهية مباشرة وحدسية تؤدى بالفرد الى الإحساس أنه غير حر وغير مستقل وإرادته وحياته مرهونة. إنها عملية يتم فيها إسماع صوت "شعب" متخيل بحجج واهية لا أساس واقعي لها ( جيرالد برونر ،2021). وهذا الاحساس بعدم الاستقلال والإحباط سمعنا التعبير عنه في مسيرات الحراك الجزائري التي يطالب فيها البعض بالاستقلال وكأن الجزائر بلد مستعمر. وفي الحقيقة هذا الشعار المنادي بالاستقلال دليل قوي على تأثير الديماغوجية المعرفية الشعبوية في الحراك الجزائري مثلا.

هذه بعض المؤشرات الأمبريقية التي تدل على أن نموذج الحراك الجزائري والعديد من الحركات الاحتجاجية التي سميت حركات الربيع العربي هي أقرب إلى الحركة الشعبوية  الديماغوجية. يمكن أن نعتبر هذا المقال شرحا لفرضية فقط وقد لاتكون صحيحىة حيث لا أدعي أن كل حراك  احتجاجي هو حركة شعبوية  وأن كل الحراكيين شعبويون  في المنطقة العربية . أتمنى أن تكون فرضيتي خاطئة والنموذج المقترح خاطئ .والسبب هو أن الشعبوية لها مفاعيل مدمرة في السياسة. الشعبوية هي أيديولوجية تقوم على أفكار خاطئة وتستغل عاطفة الخوف وتستفيد من حرية تبادل المعلومات بشكل كبير عبر الشبكات الاجتماعية  والنتيجة هي إهدار قدراتنا المعرفية،  وخلق المزيد من التوترات والتحديات وخطابات الكراهية والعنف، لأن الشعبوية تنجح في جعلنا نعبر عن كل مخاوفنا من المستقبل، وتعطي الشرعية السياسية للذين يعرفون كيف يستغلون خوفنا من أجل إقامة عالم أقل أمنا وأكثر قلقا.