محمد عبد الوهاب رفيقي،
رئيس مركز وعي للدراسات والوساطة والتفكير
تقديم
عرفت السنوات الأخيرة بالمغرب ارتفاع مستوى النقاش حول موضوع الحريات الفردية، فعقدت المحاضرات والندوات، وتناولت وسائل الإعلام مختلف الجوانب والمحاور المرتبطة بهذه الإشكالية، واستدعت كل الآراء والتوجهات على اختلافها، لكن هذا السجال على أهميته كان ضعيفا حين الترافع في لغة الأرقام، وفي تشخيص الواقع ومعرفة توجهات المجتمع بشكل دقيق، وهو ما يفقد كل المخرجات والتوصيات كثيرا من قوتها ونجاعتها.
من هنا اكتسى البحث الذي أنجزه فريق منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية حول تمثلات المجتمع المغربي للموضوع أهمية كبيرة، بفضل ما بذل فيه من جهد ظاهر، وعمل أكاديمي دقيق، مستوف لكل المعايير العلمية في الباب، وبحكم كفاءة الأساتذة المشرفين على البحث وخبراتهم في المجال.
ولقد كان لي شرف المشاركة في تأطير بعض الورشات المرافقة للبحث، وهو ما جعلني أكثر اطلاعا على مراحل العمل، وأكثر اقتناعا بما توصل إليه من نسب وأرقام، وأعتقد أن كل الفاعلين في الميدان، من سياسيين وحقوقيين وأكاديميين ونشطاء المجتمع المدني، في حاجة إلى الاطلاع على هذه المخرجات، وتوظيفها حين معالجة الموضوع، كل حسب زاويته وتخصصه ومركزه.
وبناء على ذلك، أحببت التعليق على نتائج البحث بعد صدورها، انطلاقا من اشتغالي حول دينامية الدين داخل المجتمع، وأثره في توجيه المواقف والسلوكيات، ورصد التحولات القائمة في المجتمع على مستوى تمثل المجتمع للمقولات الدينية، وأثر ذلك على تقدم المغرب وتطوره.
الحريات الفردية وضرورة الاشتباك مع المرجعية الدينية
لا يمكن الحديث عن موضوع الحريات الفردية بمجتمعاتنا الإسلامية دون الاشتباك مع المرجعية الدينية، بل يمكن القول إن أكبر عائق نحو تحقيق أي تقدم في الباب، هو التأويلات الدينية وادعاء اصطدامها بمبادئ الحرية الفردية ومقولاتها، لهذا كان من المهم جدا معرفة تمثلات المجتمع حول هذا الاشتباك، والتعليق عليه وإبداء الملاحظات حوله، مما يقدم إشارات لطرق تعميق البحث في الموضوع، وكيفية معالجته وتناوله من طرف الباحثين والفاعلين.
يتضح من خلال البحث قوة الثقافة الدينية في توجيه المواطنين لتحديد مواقفهم حول الموضوع، فقد عبرت نسبة 62% من المؤيدين لارتداء المرأة للحجاب على أن سبب هذا الموقف هو ضرورة الانسجام مع التعاليم الدينية، فيما علل 77,6 % من المستجوبين رفضهم للعلاقات الجنسية خارج الزواج بكونها محرمة دينيا، كما أن نسبة المستجوبين اعتبرت المثليين جنسيا كفارا وخارجين عن الدين، المرجعية الدينية كانت أيضا خلف موافقة نسبة كبيرة من المستجوبين على بقاء الفصل 490 الذي يجرم العلاقات الجنسية خارج الزواج.
بل حتى تبني المواقف المنسجمة مع مخرجات الحداثة والمباديء الكونية لحقوق الإنسان، لم يكن بمرجعية حقوقية أو إنسانية، ولكن بمقتضى ما تنص عليه المرجعية الدينية حسب نسبة كبيرة من المستجوبين، فحوالي 50 % من عينات الدراسة عبروا عن رفضهم لاتهام غيرهم من المواطنين بالكفر أو الإلحاد، ليس اقتناعا بمفهوم المواطنة أو استيعابا له، ولا تقديرا لقيم التسامح والمساواة، وإنما لأن الدين الإسلامي برأيهم يمنع ذلك، فيما 20 % من برروا رفضهم برغبتهم في التعايش مع المختلف تحت وطن واحد، أغلبهم من المثقفين وسكان الحواضر.
قوة هذه المرجعية في تحديد المواقف لا يمكن برأيي النظر إليه باطمئنان، لما يمكن أن تثيره من انقسامات في الرؤى والتصورات في قضايا تعتبرها الدولة الحديثة من مسلماتها، فقيم التعايش والتعددية والتسامح وقبول الآخر، وحقوق الإنسان عموما والمرأة خصوصا، لا زالت محل نقاش وتعارض داخل المنظومة الدينية، بين محاول لأقلمتها مع النص الديني، والتدليل لها بنفس الأدوات الأصولية، وبين رافض لها تبعا لما ينص عليه الفقه التقليدي، المستند إلى نصوص دينية يراها فوقية وغير مرتبطة بأي زمان أو مكان، بل يراها من أسس الإيمان والاعتقاد، ومنطق "الولاء والبراء" الذي تؤمن به كثير من تيارات الإسلام السياسي المعاصرة.
المرجعية الدينية ولبس مفهوم "الشريعة الإسلامية"
إن الاعتماد على المرجعية الدينية باختلاف تأويلاتها واتجاهاتها، في سياق دولة حديثة ووطنية، من شأنه خلق كثير من اللبس والانقسام، وهو ما يفسر الاختلاف في الرؤى بين المستجوبين، حول قضايا كان من المفروض أن تكون محسومة لدى المواطن، وأن يتلقاها منذ نعومة أظافره في مختلف المحاضن التربوية، ومن خلال الإعلام الرسمي وغيره، بل حتى من الخطاب الديني الذي يمكن تأطيره ومراقبته كصلاة الجمعة أو البرامج الدينية بالقنوات التلفزية والإذاعية.
وما يزعجني أكثر في الموضوع، هو أنه مع اعتماد هذه المرجعية، وتعدد المخاطبين بها، واختلاف التأويلات داخلها، ما الذي يمنع أي متلقي من تبني خطاب متشدد بخصوص هذه القضايا، خاصة مع الطرق البيداغوجية التي تربى عليها الفرد في مجتمعاتنا، سواء في أسرته أو مدرسته، والتي تصور له الحقيقة بعدا واحدا، والنسبيات أمرا مطلقا، مما يجعله معرضا في أي لحظة للتشبع بمرجعية دينية متشددة، تقدم نفسها ممتلكة للحقيقة وضامنة للنجاة قبل الموت وبعده.
مرجعية الدين في التصور والموقف لدى فئة كبيرة من المستجوبين، يظهر أيضا مع ما عبر عنه 46,2 % من أن تطبيق الشريعة الإسلامية سوف بحل مشاكل المجتمع الإسلامي، لست أدري صراحة عن أي نموذج من الشريعة الإسلامية يتحدثون؟ السعودي أم الإيراني أم الأفغاني أم السعودي أم التركي أم الداعشي؟ فمفهوم هذه الشريعة التي يرونها حلا لكل إشكالاتهم الاجتماعية والاقتصادية يتغير حسب التنزيل والزمان والمكان، وحسب طبيعة المتبني لهذا الشعار وإيديولوجيته وأهدافه، فمن يرى ضرورة استعادة أحكام القصاص وحد السرقة وحد الحرابة وجلد الزاني البكر ورجم المحصن يرى أن هذا من لب الشريعة، وأنه بدون هذه القوانين لا يمكن الحديث عن دولة إسلامية أو حكم بالإسلام، فيما يرى آخرون من دعاة الشريعة الإسلامية أيضا أن القوانين الوضعية أصبحت أمرا واقعا لا يمكن رفعه، ثم يبحثون عن سبل المواءمة بينها وبين القوانين الدينية التقليدية، وكل ذلك باسم تطبيق الشريعة الإسلامية، فهل تعي هذه النسبة التي تبلغ نصف المستوجبين قصدها ب "تطبيق الشريعة الإسلامية"، ذلك برأيي ما ينبغي تعميق البحث فيه وتطويره في مراحل أخرى من هذا المشروع.
مما يظهر بشكل واضح هذا اللبس الواقع في الأذهان تجاه مفهوم "الشريعة الإسلامية"، أن 73 % من المستجوبين يرون أن حال المجتمع سيكون أفضل مع تطبيق مبادئ حقوق الإنسان، وهو ما يعني أن النسبة الغالبة على غير وعي بالإشكالات القائمة بين النص الديني والفقه التقليدي من جهة وحقوق الإنسان من جهة أخرى، وتعارضها في كثير من الأحوال، سواء فيما يتعلق بقيم التعايش والتعددية والتنوع، أو الحريات الفردية خصوصا منها ما يتعلق بالمرأة والجسد، أو العقوبات البدنية والقوانين الجنائية، بل إن كثيرا من تيارات الإسلام السياسي تعتبر مبادئ حقوق الإنسان مفهوما دخيلا على الثقافة الإسلامية، ويتنافى مع خصوصية الإسلام وقوانينه.
من أمثلة هذا اللبس أيضا أن المرجعية الدينية كانت هي الباعث حول تبني موقف الأغلبية لموقف متسامح تجاه المختلف، فقد عبر حوالي 70 % من المستجوبين عن تقبلهم للصداقة مع المختلف، ظنا من أغلبهم أن هذا ما تمليه التعاليم الدينية، مع أن الأمر ليس بمحسوم داخل هذه المرجعية، بل إن غالب المذاهب الفقهية المعتبرة تتوجس من المخالف، وتعتبره ضالا أو مبتدعا أو كافرا، وتصنفه حربيا ويستحق القتال وإباحة الدم والمال، إلا في حالات خاصة كالمعاهد والمستأمن، فضلا عن أحكام الجهاد وما يعرف بجهاد الطلب، وهو غزو كل البلاد لنشر الدين، وقتال كل من لا يقبل ذلك إلا أن يعطي الجزية بعدد من الشروط المهينة.
وهذه الثقافة الدينية التي ليست بخفية، بل إن الخطابات الدينية التي تبثها القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت المختلفة، لا تتوقف عن نشر مثل هذا الخطاب وترويجه، وهذا ما يفسر اللبس الحاصل حين سؤال نفس المستجوبين عن حكمهم على المغير لدينه أو مذهبه، فأجاب 60 % بأن ذلك كفر وردة وضلالة، والسبب في هذا الاضطراب وعدم الوضوح في الموقف، هو اللبس القائم أصلا في الموقف الديني من هذه القضايا، بين فقه تقليدي قائم على تقسيم الدول إلى دار سلم ودار حرب، وتقسيم الناس إلى مسلم وحربي و مستأمن و معاهد، وفقه تجديدي يحاول التوفيق بين النص الديني والواقع المتغير.
تأرجح هوياتي : هل هو عنوان فشل الدولة الوطنية؟
ومما ينبغي التوقف عنده أيضا، موقف غالب المستجوبين من نصوص القانون الجنائي المتعلقة بالحريات الفردية، كالفصل 222 الذي يمنع المجاهرة بالإفطار خلال شهر رمضان، والفصل 490 الذي يجرم إقامة علاقة جنسية خارج الزواج، يلاحظ أولا أنهم لا يعرفون مضمون هذه النصوص، وحين قرئت عليهم أعلنوا موافقتهم لها، باعتبارها متوافقة مع تعاليم الشريعة الإسلامية، مع أن هذه القوانين لا وجود لها ولا أثر حتى بمنظومة الفقه التقليدي، فضلا عن النص الديني، وهي من مخلفات قوانين الاحتلال التي سنها للتقرب من المغاربة، وادعاء حمايتهم للدين والعقيدة، مما يجعلنا أمام مواقف عاطفية وانفعالية، بعيدا عن تأسيس التصورات والأفكار على ما هو منطقي وعقلاني وعلمي.
ما يمكن أن أستخلصه من كل ما سبق، هو أننا أمام مجتمع لا زال لم يحسم في تشكيله الهوياتي، ولا في اختياراته الدينية والمدنية، لم يقرر بعد إن كان يريد دولة مدنية حداثية، أم نظاما تقليديا سلطانيا، إن كان يريد استيعاب ما بلغه العالم من تطور وتقدم، وينخرط فيه بما يملك من ثقافة وتاريخ وموروث، أم أنه يريد أن يبقى منعزلا ضحية خطابات المؤامرة والتكالب عليه من طرف قوى العالم، يلعب الخطاب الديني دورا كبيرا في هذه الحيرة، كما أن المدرسة لا زالت لم تلعب دورها إلى اليوم في غرس قيم الحداثة ومبادئها، لا زالت المدرسة بنفسها تعتمد نظاما تقليديا قائما على الحفظ والاستظهار، بعيدا عن تلقين الطالب مناهج السؤال، وكيفية النقد، وضرورة التثبت والتمحيص، وطرق استخدام العقل، وهي برأيي أهم ما ينبغي أن تركز عليه المدرسة اليوم، وليس شحن الطالب بمعلومات أصبحت متوفرة بضغطة بسيطة على جهاز التلفون الموجود في جيب ذلك الطالب.
حين سئل المستجوبون عن هويتهم، أجاب اغلبهم بأنهم مسلمون أولا، قبل أن يكونوا مغاربة، فهل فشلت الدولة الوطنية الحديثة في إنتاج المواطن المغربي هوية، قبل أي رافد آخر من روافد الهوية كان دينيا أو غيره؟، لذلك لا بد من استمرار البحث في الموضوع، والانتقال من الكمي إلى الكيفي، والتوسع في السؤال حول ماهية هذه المرجعية الدينية المزعومة، ومعرفة وتحديد مصادرها، وكيفية التعامل مع الخلافات والإشكالات القائمة داخلها، وطرق ملائمتها مع إكراهات الواقع المتغير وتحدياته وحاجاته، كما أننا بحاجة لدراسة حالات كثيرة ممن لا تتبنى هذه المرجعية، وأعدادها تتصاعد يوما بعد يوم، فأنا متأكد أننا سنكون أمام نتائج مختلفة، وأن مثل هذا البحث سيفتح لنا نوافذ كثيرة، وسيطرح إشكالات لم يسبق تناولها، نستطيع من خلالها تحديد مواطن الخلل بكل دقة، والاتجاه للعلاج بشكل مباشر، بدل ما ضاع منا من أوقات ربما لم نعالج فيها ما كان يجب علاجه.