بشراكة مع بيت الحكمة ومقاطعة عين الشق، افتتحت مؤسسة منصات للدراسات والأبحاث الاجتماعية يومه الجمعة 16 شتنبر 2022 موسمها العلمي، والذي احتضنته قاعة حبيبة المذكوري بالمركب الثقافي عين الشق ــ بمحاضرة تحمل عنوان: "من الفرد إلى الفردانية أية تحولات؟" من تقديم فيلسوف علم الجماليات المغربي موليم العروسي. وتم تسيير هذا الدرس الافتتاحي من طرف الأستاذ عزيز مشواط رئيس مؤسسة منصات وأستاذ علم الاجتماع بجامعة الدار البيضاء.
الماضي يكبح الفردية والمرأة أكبر الضحايا
وأكد عالم الجماليات موليم العروسي أنه بالرغم من وجود قوانين وسجل كامل ومتكامل يحمي المواطن كفرد إلا أننا مازلنا ننسب الذكر إلى أبيه أو قبيلته، ونخفي المرأة كذات خلف ستار "ابنة فلان"، "زوجة فلان" و "أم فلان"، وننسى وجودها كفرد مستقل، بل وحتى القانون لا يحميها في معظم الأحيان.
وأضاف المتحدث أن" المغرب عرف منذ ما قبل الاستقلال نقاشات لا تزال رواسبها تعيش معنا، عند الحديث عن الفرد. صحيح أن الفرد موجود لأنه مسؤول عن ذاته، لكن هناك البعض من مخلفات الماضي كأن يعرف الرجل بوالده، بقبيلته وبمنطقته فمثلا نقول " أحمد ابن فلان ونضيف القبيلة فيصبح "أحمد ابن فلان المراكشي أو الدكالي" و عند سفره للغرب يصبح "أحمد ابن فلان الغربي".
ويصبح الأمر أكثر حدة عندما يتعلق الأمر بالمرأة حيث "تمر عبر ثلاث مراحل: فهي ابنة فلان، زوجة فلان و أم فلان"، لكنها كذات غير موجودة، علما أن الاستعمار أدخل ما يسمى بالسجل، هذا السجل المتكامل الذي يحمي هوية الفرد، لكن المرأة ولحد الآن تعاني من التهميش فيما يخص حقوقها، فالقانون شيء وما وضعته الإدارة لترتيب وتمييز الأفراد ومعرفتهم شيء آخر تماما".
وأضاف العروسي في محاضرته، أن الترافع عن الحقوق يجب أن يكون قائما على أساس فردية المواطن، الذي من اللازم أن يكون مطلعا على الحريات الفردية في التصرفات ليعرف من هم شركائه في المرافعة، لأن جزءا كبيرا من المجتمع لا يعرف معاني الحريات الفردية.
ولم يفت العروسي التذكير بذلك الرابط القائم بين الحرية والمسؤولية حيث اعتبر: "بما أننا نطالب بحريتنا على أساس فرديتنا فيجب علينا الاختيار وتحمل مسؤولية هذا الاختيار ليتحول الشخص من فرد أو ذات مفكرة إلى فاعل يملك مصيره وفعله وله قراره الخاص، وله الحرية في تملك جسده".
الفردية ليست أنانية
وفي معرض تطرقه لانبثاق النقاش حول الحريات الفردية، عاد العروسي إلى الالتباس الحاصل بين "الفرد" و"الفردانية"، حيث ترتبط هذه الأخيرة في تصور الناس بـ"الأمراض الاجتماعية" التي تجعل الفرد على قدر من الأنانية وتعظيمٍ للذات. في حين تشير الفردية إلى تثبيت صفة الفرد، ومن هنا تبدأ المقارنة بين الفردية قبل النهضة الأوربية وبعدها وكذلك علاقتها بالممارسات المجتمعية، التي لا يمكن الجزم بأنها المتسبب في ظهور مفهوم الفردية.
وحول ظهور مفهوم الفرد والفردية، عاد العروسي إلى تاريخ علم الاجتماع الحافل بالتقاطعات مع عدة علوم كالميكانيكا والفضاء والفن أيضا.هذا التقاطع، يقول العروسي، حدث تِباعا ويمكن القول بأنه ساهم في التقدم الأوربي الحاصل حاليا.
ومن جهة أخرى، أكد المتدخل أن الثورات العلمية التي تعرض لها الإنسان جعلته يخرج من التفكير الدائري نحو الفضاء المفتوح الذي تحدث عنه الكاتب ألكسندر كويري في كتابه، du monde clos à l'univers infini، فمسار الكون في هذه الحقبة الزمنية اعْتُبِرَ نسخة من مسار الإنسان حيث: ينشأ، يكبر ثم يموت فيعود إلى السماء، أي أن التفكير كان يصب في مسار مغلق.
وحسب، العروسي دائما، لعب الفن دورا كبيرا في إعادة النظر في هذا التصور الدائري، فالأشخاص الذين ارتبطوا بالفن لاحظوا أن الصور المعلقة في الكنائس ــ أي الصور التي لها علاقة بالدين ــ مركزها مريم العذراء و حولها صور لأنبياء أو أولياء... ، لكن لا نجد في الصورة أثرا للأرض فكل شيء متعلق بالسماء و كلٌّ في دائرة الزمن.
وسجل المحاضر، في هذا الصدد، أن هذا الأمر اختلف عند رسم أول لوحة للمسيح كجسد و ليس كنور لتكون هذه اللوحة إشارة للفنانين بأن يكفوا عن النظر إلى السماء ويبحثوا في الأرض ليصوروها. وشكل ذلك اللبنة الأولى في مسار المساواة والتقدم. ولعل لوحة الراهب وراعي الغنم وبجانبهم كلب، التي رتبها رسامها حسب المسافات وليس القيمة الاعتبارية للشخص، مثلت أولى عناصر البحث عن المساواة من خلال ترتيب عناصر اللوحة بنفس المستوى.
وأثناء تحليله لمساهمات الفلاسفة في انبثاق الفرد الحر، عرج العروسي على عدة فلاسفة وفنانين أثروا على مجرى حياة الإنسان كـ"ديكارت"، "جون جاك روسو" و"نيكولا بوسان"، ليَخْلُصَ إلى أن التفاوت الذي يجب الأخذ بعين الاعتبار وجوده هو الاختلاف الفيزيولوجي لا الأخلاقي، مع اعتبار أن المحدد القانوني والحقوقي للإنسان هو الفكر و ليس الرابطة الدموية أو الانتماء.
وقدم العروسي العديد من الأمثلة عن تلك الانتقالات التي شهدتها حقول معرفية فنية من قبيل الشعر والرسم. فالفيلسوف أفلاطون والناقد العربي "الجاحظ" شرحا قوة الشعر بأنها مس من الجن بل وبدرجة قوة هذا الأخير يكون الشعر قويا. وعليه، ساد لفترة طويلة اعتقاد في أن القوى الخارجية هي التي تتحكم في درجة الالهام. الأمر الذي صار اليوم من الماضي كون مخاض الإبداع يوجد في إنية الإنسان وداخله، ليصبح الفنان متفردا بذاته.